أول مرة - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:01 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أول مرة

نشر فى : الخميس 16 يناير 2020 - 9:55 م | آخر تحديث : الخميس 16 يناير 2020 - 9:55 م
مدّت السيدة الأربعينية يدها بورقة التحاليل إلي طبيبها المعالج وقد أظهرت القراءات بوضوح أنها أصيبت بمرض السكري. راح الطبيب كالمعتاد يكتب روشتة الأدوية المطلوبة ثم إذا به ينتبه على تعليق من السيدة يقول: غريبة جداً يا دكتور هذه أول مرة أعاني فيها من مرض السكري! توقف الطبيب مؤقتاً عن الكتابة ونظر إليها من خلف نظارته ورد: ولا غريبة ولا حاجة، دائماً هناك أول مرة لكل شيء، ومضي يتم كتابته، هكذا؟، نعم هكذا.. لكل شيء بداية كما أن لكل شيء نهاية. لم تشعر بالراحة، آه منكم أيها الأطباء تتعاملون مع المرض بعقلانية شديدة نحتاج نحن المرضي إلى تجميلها.. تأجيلها.. تأويلها.. تدليلها، لكن هيهات، قُضي الأمر وحُفِرَت جملة الطبيب في ذاكرة صاحبتنا، ومع أن الأيام مرت وجرى التأقلم مع مرض السكري ومع أمراض أخرى توالت عليها تباعاً، لكنها ظلت تذكر الجملة إياها كلما جرّبت شيئا لأول مرة، ومثلها مثل كل الناس وجدَت في تجربة بعض الأشياء متعة ووجدَت ألماً في بعضها الآخر.
***
تؤثر فينا أول مرة لأنها تأتي مصحوبة بمفاجأة تقف لها حواسنا في وضع انتباه، أما كيف تتفاعل حواسنا مع هذه المفاجأة فإنه أمر يرتبط بطبيعة الموقف. في حلوقنا بقايا من طعوم كثيرة خلّفتها المرات الأولى للتجارب المختلفة، فللمرة الأولي في الحب طعم وللنجاح طعم وللسفر طعم وللأمومة والأبوة طعم وأي طعم. المرة الأولى هي المرة الأصدق لأن فيها تلقائية.. نكون على طبيعتنا ولم نتدرب بعد على تهذيب انفعالاتنا وترويضها. لكن إحسان عبد القدوس يقول: في حياة كلٍ منا وهم كبير اسمه الحب الأول، فهل الوهم ضد الصدق؟ بالعكس الوهم هو منتهى الصدق مع النفس، فمن يتوهم أن حبه الأول هو حبه الأخير يكون واثقاً من ذلك تمام الثقة ثم تتغير الظروف ويصادف في طريقه حباً آخر، كما أن هناك فعلاً من يحب مرة واحدة وإلى الأبد.. كان إحسان مبالغًا وقليل من المبالغة مقبول في الأدب. لا ترتبط ذكرى المرة الأولى بأحداث كبيرة بالضرورة، فنحن نحتفظ أحياناً في ذاكرتنا بأحداث تافهة أو تبدو تافهة لكنها تؤثر، لازلتُ مثلا أتذكر أول مرة قررت فيها أن أراسل صديقة عمري خلال إجازة الصيف، سافَرَت صاحبتي إلى الإسكندرية وبقيت في القاهرة فلم أجد ما أكتبه لها إلا كلمات كانت شائعة جداً بين تلاميذ الستينيات ولا أعرف لها مصدرًا، كتبتُ لها أقول: بيني وبينك بحر كبير خايفة أعدّي أحسن أطير.. بيني وبينك بحر الحب خايفة أعدّي أحسن أطّب. هذه المرة الأولى لممارسة التراسل جعلتني أتذوق حلاوة التعبير عن المشاعر بالكتابة، صحيح أن الكلمات لم تكن كلماتي أنا ولا كانت تصّور بدقة إحساسي بالوحشة في غياب صاحبتي، لكني على أي حال جرّبت نفسي وأحببت تجربة الفضفضة بالكتابة، كلمة أحببت كلمة مخففة، الأدق أني أدمنت التجربة .
***
أحياناً نحاول استنساخ المرات الأولى السعيدة في حياتنا فلا تلين لنا مشاعرنا كما نحب لأن شيئاً ما ينقصنا حتى نشعر كما شعرنا أول مرة ، ما ينقصنا على الأرجح هو غياب الدهشة، ومع ذلك نحاول. نبدّل وظائفنا طوعاً أو كرهاً ونبدأ بدايات جديدة ومرات جديدة لكن أول وظيفة تظل شيئا آخر، ملمس أوراق البنكنوت في أول مرتب له أثر يجعلنا نشعر أننا لم نلامس شيئاً قبلاً لشدة إحساسنا به ورهافته، نضع قائمة طويلة عريضة من الاحتياجات والهدايا ثم تطير الأوراق النقدية قبل أن ننتقل إلى البند ثانياً، لكن الرضا يغشانا ويساكننا. نغيّر البيوت والعناوين ونكتب في كلٍ منها تاريخاً جديداً لكن أول مفتاح ندخل به إلى شقة أثثناها على ذوقنا ينتقل معنا من سلسلة مفاتيح إلى أخرى ولا ينافسه مفتاح آخر أبداً. مممم ..هذا كلام فيه بعض الرومانسية، فمن البشر من يكرهون بداياتهم المتواضعة.. ينسونها أو يتناسونها، والمرة الأولى التي يعتّدون بها تكون هي المرة التي صاروا فيها شخصيات ملء السمع والبصر ونجومًا تتلألأ في المجتمع، تجدهم يخلعون ماضيهم وجيرتهم وصداقاتهم القديمة ويستعيضون عنهم جميعاً ببدائل يدعون أنها تاريخهم وبدايتهم الأولى، نعم يحدث هذا ونصادفه كثيراً ومن ذا الذي يدعي أن هناك مسطرة واحدة لكل البشر، علاقتنا بالأشياء والذكريات والمرات الأولى هى جزء من تكويننا الشخصي وهى تختلف بقدر ما نختلف. وعلى أي حال ليس هذا هو الاستثناء الوحيد في العلاقة مع أول مرة، فبيننا من لا يحاول استنساخ مراته السعيدة فقط لكنه يتعمد استنساخ حتى مراته الحزينة، فإذا هو يجتر نفس مشاعر الألم التي راودته في لحظة الفقد الأعظم لأب أو ولد عندما يفارقه أحباء آخرون، تصنع الكيميا والعِشرة وشائج بين البشر تشبه وشائج القرابة فإذا فقد المرة الأولى يتكرر مائة مرة .
***
يمتد العمر ويطول فتتآكل مراته الأولى وتصبح كل الأشياء مجربة وكل التجارب مكررة ولا يعود لنا فيما تبقى من أيام/ شهور/سنين إلا الاستنساخ، الاستنساخ لمشاعر كانت في يوم ما مشاعر أول مرة .
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات