جمهورية عساكر (3) - وحيد حامد - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 8:39 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جمهورية عساكر (3)

نشر فى : الأربعاء 16 ديسمبر 2009 - 10:20 ص | آخر تحديث : الأربعاء 16 ديسمبر 2009 - 10:20 ص

 نظرات رجال مباحث أمن الدولة فيما بينهم تدل على عدم الارتياح لهذا الوافد المقتحم المتطفل مجدى الفرخ، والحقيقة أن نظراتهم صائبة وإحساسهم صادق تماما، وأمام هذه النظرات الباردة تجاهه أدرك أنه أخطأ وأن هؤلاء الرجال نوع آخر ومختلف عن رجال التوك شو الذين يسعد بوجودهم فى المنطقة.. أدرك أنه فى ورطة وأنه أمام رجل من نوع آخر لا يعرفه ولن يقع مرة أخرى فى فخ «التخمين» اصطنع ابتسامة بلهاء، قائلا:

ـ لمؤاخذة يا بهوات.. الدنيا أصلها ضلمة شوية.. وأنا..
إلا أن الضابط باغته بالسؤال الذى يكشف من هم فى وضوح وجلاء:
ـ معاك بطاقة يا مجدى يا فرخ..؟!
هنا أدرك أنه يقف متطوعا أمام «المباحث» والذين لم يعرف حقيقتهم من أول وهلة لأنهم كانوا يرتدون ملابس العيد هذا بخلاف أنهم وجوه جديدة بالنسبة له ولغيره من البشر الذين تحولت حياتهم إلى عقوبة قاسية بالإقامة فى مثل هذا المكان.. وعندما اعتذر عن تقديم البطاقة بحجة أنها فى البيت وأنه قريب جدا، ومن الممكن أن يتفضلوا ويشربوا الشاى ويتحققوا من وجود البطاقة، هنا قرر الضابط استغلاله وباغته بالسؤال:
ـ تعرف بنى آدم اسمه حسين عساكر.
وهنا هتف مجدى الفرخ فى سرعة وسرور:
ـ إلّا أعرفه يا باشا.. أنا أعرفه وأعرف كل خباياه..!!

وهكذا وجد رجال أمن الدولة مرشدا دون أدنى مجهود والأهم هذا الحماس التلقائى لديه لتقديم الخدمات وهذا أمر يسعد به كثير من الناس على اختلاف أنواعهم وأحوالهم.. بشر جبلوا على الوشاية..

***
فى قسم قصر النيل احتار الضابط هيثم فى أمر حسين عساكر وكيفية التصرف معه، هل يضعه فى الحجز مؤقتا لحين وصول الإفادة من مباحث أمن الدولة؟ ولكنه يتراجع بسرعة حيث إنه لم يرتكب ما يستوجب هذا الفعل.. ولا حتى التخشيبة دول كلهم خمس كلمات «أنا عاوز أحكم البلد دى» لا يوجد فى الدستور ولا فى جميع القوانين ما يجعل هذه الكلمات الخمس جريمة.. وحكم على نفسه بالغباء لأنه لم يصرفه لحال سبيله لحظة وصوله إلى القسم، وعليه كان قراره أن يبقيه جالسا وحرا فى نفس حجرة الاستقبال وأكثر من ذلك أكرمه وقدم له الشاى على حسابه الخاص.. هكذا يفعل أولاد الناس وعلى أمل أن تتحطم الحواجز الصخرية الموجودة بين الشرطة والشعب ويبوح حسين عساكر بأسراره.

وفى هذه الأثناء دخل حجرة الاستقبال بالقسم الأستاذ والمحامى الكبير «أدهم حافظ» وهو رجل مهيب أنيق متماسك وكله حيوية رغم أنه تجاوز الثمانين من عمره بسنوات قليلة، صحيح أنه اعتزل مهنة المحاماة بإرادته واختياره عندما أحس أن قدرته على العطاء قد تراجعت.. وأنه خسر بعض القضايا التى لم يكن يخسرها أبدا لو أن عطاءه كان كاملا وغير منقوص.. ولكن الرجل ظل على ما هو عليه باعتباره فقيها من فقهاء القانون العظام وهو من سكان جاردن سيتى وكان صديقا لزميله الراحل من أهل جاردن سيتى «أحمد شوقى الخطيب» ومازال يذكر أنه كان يشاهد مصطفى النحاس باشا وهو خارج إلى الوزارة أو الحزب كل صباح وكان يلقى عليه التحية والباشا يرد فى مودة وترحاب وكان على بابه حارس واحد فقط لا غير، أما فى هذا الزمان فالحرس الموجود على بيوت الكبار فى جاردن سيتى عبارة عن كتائب قتالية.. أطقم الحراسة هذه يمكن لها أن تقاتل الحوثيين فى اليمن إكراما للشقيقة السعودية.. ويمكن لها أن تحرر مزارع شبعا فى لبنان.. ويمكن لها أن تبسط الأمن والسلام فى أى منطقة بها قلاقل.. والرجل أحيانا يتجاوز فى تقديراته بالنسبة لهذا الشأن تحديدا ويقول على سبيل المزاح.. دول مش حرس على بنى آدمين.. دول قوات انتشار سريع..

هذا الرجل دخل غاضبا وساخطا وطلب تحرير محضر ضد أحد سكان العمارة التى يقطنها.. أى أحد جيرانه.. استقبله الضابط هيثم بكياسة ولطف وطلب منه الانتظار خمس دقائق فقط حتى ينتهى من أمر فتاة متسولة كانت تتسول أمام فندق الفورسيزون.. وجلس الرجل المهيب والقانونى الفذ إلى جوار أخينا حسين عساكر، وسأله فى تلقائية:
ـ أنت ضيف ولّا شغال هنا يا ابنى.
رد حسين فى هدوء ودون أى توتر.
ـ لا دى.. ولا دى يا أستاذ.. أنا هنا متهم.
ـ وإيه تهمتك..؟!
ـ أبدا مسكونى وأنا بقول أنا عاوز أحكم البلد دى.
وتجمد الرجل المهيب والقانونى الفذ.. ظل على حالته هذه نصف دقيقة أو أكثر قليلا.. ثم سأل حسين:
ـ عاوز تحكمها بجد ولا كلام كده.. وكده..!!
ـ مفيش حاجة اسمها كده.. وكده.. أنا قد كلمتى يا أستاذ..
وفجأة انتفض الرجل الوقور المهيب واتجه نحو الضابط هيثم..
ـ الجدع دا عبيط ولا أهبل.. ولا شارب حاجة.. يحكم البلد دى إزاى.. هيه البلد فيها حاجة تتحكم أصلا؟ هتحكم فيها إيه؟ هيه فيها حاجة ما خلصت خلاص..
أدرك الضابط هيثم أن هذا الرجل المهيب قنبلة موقوتة عليه أن يبطل مفعولها فورا وإلا فإن القسم كله معرض للانفجار.. وهمس لنفسه:
ـ يا خبر أسود وزى القطران.. هو إحنا لسه خلصنا من اللى عاوز يحكم علشان يطلع لنا اللى يقول هيه البلد فيها حاجة.. ما خلصت خلاص؟ ومين..؟ فحل من فحول القانون..

لكن الله سبحانه وتعالى ألهمه التصرف السريع والسليم حيث أصدر الأمر بإيداع الفتاة المتسولة التخشيبة إلى حين الانتهاء من بلاغ الأستاذ أدهم حافظ الذى قال ملخصا مضمون البلاغ قبل الشروع فى تحريره رسميا..

قال الرجل القانونى الجهبذ.. بدأ الخلاف بينى وبين السيد «وفائى عبدالتواب» الذى يقطن الشقة رقم خمسة التى اشتراها من إحدى شركات التأمين فى مزاد وهمى حيث إنه شخصية مهمة وحاليا يشغل منصبا مهما فى الحكومة الحالية.. هنا تحديدا أحس الضابط هيثم أن هذه الليلة قد تغيرت تماما.. فجأة هبت الرياح واشتدت العواصف.. فهو يعلم من هو وفائى عبدالتواب كما يعرف من هو الجالس أمامه يقدم بلاغه وأراد إنهاء المشكلة قبل أن تبدأ، وتبدأ معها تداعيات لا أول لها ولا آخر.. قال فى رجاء:
ـ حضراتكم ناس أفاضل.. ممكن نحل المشكلة ودى..
وإذا بالرجل المهيب ينفجر كأنه يترافع أمام محكمة نقض..
ـ مفيش حاجة ودى.. القانون وبس.. القانون على الجميع.. هو إحنا رحنا فى داهية إلا بسبب الودى.
ـ هنا تدخل حسين عساكر وهو يجلس فى مكانه.
ـ والعرفى يا باشا.. الودى والعرفى..
ـ نظر إليه الرجل المهيب وصدق على كلامه قائلا للضابط:
ـ الودى.. والعرفى زى ما قال..!! افتح المحضر.

واستسلم الضابط دون أن يجادل، وعاد الرجل ليواصل سرد مضمون البلاغ.. بدأت المشكلة فى الساعة الواحدة بعد ظهر يوم الخميس الذى هو يوم وقفة العيد المبارك.. حيث جاءت عربة نصف نقل تحمل خروفا على سبيل الهدية إلى السيد وفائى وبالطبع صدرت الأوامر إلى البواب بالاحتفاظ بهذا الخروف فى منور العمارة وعندما حدث ذلك.. يبدو أن الخروف أحس بالوحدة والغربة فانطلق محاولا أن يؤنس وحدته ويبدد غربته فأطلق صوته عاليا ماء.. ماء.. ماء..

ماء بكل النغمات ودرجات الصوت المتاحة لديه، وشىء طبيعى أن ينزعج كل السكان وعلى رأسهم الفقيه القانونى أدهم حافظ الذى أرسل مع البواب رجاءً مهذبا إلى السيد وفائى بالتصرف فى هذا الأمر فليس من المعقول أن يستمر الخروف فى ندائه المتكرر حتى بعد صلاة العيد فى صباح الغد، فكان رد السيد وفائى عجيبا ومدهشا بعض الشىء حيث قال:
ـ كلها نصف ساعة والا ساعة وجاى خروف تانى.. وإن شاء الله يونسوا بعض ويبطلوا مأمأة.

وفعلا وصلت سيارة نصف نقل تابعة لمحافظة الشرقية تحمل خروفا وبعد نزوله مباشرة أقبلت سيارة نصف نقل تابعة لمحافظة بنى سويف هى الأخرى تحمل خروفا وجاءت سيارة من محافظة حلوان وكل الخراف تذهب إلى منور العمارة وكل خروف يرحب بالآخر.. ماء.. ماء.. ماء.. ماء.. ماء.. سيمفونية صاخبة مزعجة رفعت معدلات ضغط الدم ومستوى السكر، الأمر الذى دفع الأستاذ أدهم إلى أن يتجه بنفسه إلى شقة السيد المسئول وفائى عبدالتواب الذى حول العمارة السكنية إلى حظيرة.. ودق على الباب بيده فى قوة.. ولم يستعمل جرس الباب..

وإلى الأسبوع القادم بإذن الله

وحيد حامد سيناريست وكاتب صحفي
التعليقات