تناقضت الصور فى جولة الاستفتاء الأولى على دستور أحاطت مساجلاته دماء سالت فى الشوارع. مواطنون عاديون وقفوا لساعات طويلة فى طوابير ممتدة أمام لجان الاقتراع وفوضى فى التنظيم أفضت إلى عدم قدرة أعداد يصعب حصرها على الإدلاء بأصواتهم.
الزخم البشرى أدى إلى نتيجتين: أولاهما، الحد من معدلات العنف بصورة لافتة بعد مواجهات امتدت لأسابيع، وهذه شهادة لقدرة النسيج الوطنى المصرى على تجاوز احتمالات الاحتراب الأهلى.. وثانيتهما، الحد من معدلات التزوير الذى بدا فاضحًا فى وقائع ثابتة رصدتها منظمات حقوقية، وهذه شهادة أخرى لوعى جديد تبلور فى سؤال واحد واجهه المشرفون على الاقتراع: «هل يمكن أن تطلعنى على بطاقتك يا سيادة القاضى؟».
النتائج تقاربت فيها «نعم» و«لا» بصورة غير متوقعة والحسم تأجل للجولة الثانية. أرقام التصويت ودلالاتها تماشت إلى حد كبير مع تقارير التنمية الإنسانية، فالمناطق الحضرية التى ترتفع فيها معدلات النمو والتعليم منفتحة على العالم وصور الحياة الحديثة ذهبت إلى رفض الدستور بينما أيدته المناطق الأكثر فقرًا وبؤسًا، وهذه مأساة بذاتها فنصوص مشروع الدستور تجافى العدالة الاجتماعية التى تحتاجها المناطق المهمشة خاصة فى محافظات الصعيد.
لمرة أخرى استعصت العاصمة «القاهرة» بكتلتها السكانية الأكبر على الجماعة، وفى هذا خصومة تمتد مع المركز الرئيسى للقوى الحيوية فى البلد كله.
بالنظر إلى أن ثقافة الاستفتاء غائبة فى مصر، والخروقات الكبيرة التى شابت إجراءاته، فإن النتائج المعلنة للجولة الأولى ترجح احتمالات هزيمة انتخابية للتيار الإسلامى فى أول انتخابات نيابية.
ربما فاجأت الأرقام جماعة تعالت على مجتمعها حتى وجدت نفسها فى حالة انحسار فى شعبيتها. تصورت أن الاستفتاء نزهة نيلية فى ليلة صيف، ولم تدرك حجم فجوة الكراهية التى باتت تفصلها عن قطاعات واسعة فى الرأى العام وداخل الطبقة الوسطى المدينية بالخصوص. التصويت بـ«لا» عقابى فى جانب رئيسى منه، والتصويت بـ«نعم» فى جانب رئيسى آخر سعى للاستقرار، رغم أن «نعم» فى استفتاء (٢٠١١) جرى الحشد لها باسم استقرار لم يتحقق أبدًا من يومها إلى الآن.
الأرقام المتقاربة تؤكد فكرة الانقسام السياسى والاجتماعى حول مسألة هى بطبيعتها قضية وفاق، فمثل هذه النسب المتقاربة تصلح لحسم انتخابات نيابية ولكنها لا توفر شرعية دستورية مستقرة وقابلة للبقاء.
استعراض الحقائق فى صناديق الاقتراع يدخل بعد أيام جولة أخرى حاسمة.
فى حالة الحسم الأخير بـ«لا» فإن احتمالات الحوار أفضل والمصالحة أكبر، إذ يمكن البدء من نقطة صحيحة، والتوافق على قواعد انتخاب جمعية تأسيسية جديدة.
يتعين على المعارضة هنا ألا تنخرط فى عبارات تشف واستعلاء تكرر الأخطاء ذاتها التى ارتكبتها الجماعة، وقد يكون الحسم بـ«لا» لصالح الجماعة نفسها، التى يمكنها فى هذه الحالة أن تتخفف من ضغوط السلفيين عليها، وأن تصحح من صورتها، وأن تسعى إلى شىء من التوافق مع التيارات الأخرى يسمح لها بأن تعبر المرحلة الانتقالية بأقل قدر من الخسائر السياسية.
وفى حالة الحسم بـ«نعم» فإن بعض الجماعات الإسلامية قد تصعد من مواجهاتها مع التيارات الأخرى بظن أن بوسعها حسم الصراع بالقوة، وهو احتمال يستحيل تصور تحققه، فالعنف يفضى إلى فوضى، والفوضى تأكل من شرعية الحكم، وتآكل الشرعية يؤدى إلى تدخل من نوع آخر ينهى التجربة الديمقراطية المتعثرة ويرجع بتلك الجماعات إلى النقطة رقم صفر.. وهو احتمال مرشح لاستنفاد طاقة البلد لفترة قد تطول. المعارضة بدورها قد تجد نفسها بعد حسم «نعم» مضطرة لمتابعة معركة الدستور الممتدة وتداعياتها الخطيرة على مصر وصورة المستقبل فيها، وداخلة فى اختبار الانتخابات البرلمانية بقوائم موحدة.
فى المشهد السياسى المضطرب إشارات وعلامات على امتداد الأزمة لا انتهاءها وتفاقمها لا احتواءها.
فالاستفتاء بذاته لا يحسم الأزمة المتفاقمة بين الرئاسة والقضاء.. وامتناع غالبية القضاة عن الإشراف على الاستفتاء له وجهين أولهما، تعلق باعتراض جوهرى على تغول السلطة التنفيذية على أعمال القضاء والشك فى سلامة إجراءات الاستفتاء على دستور يستهدف فى بعض مواده السلطة القضائية ذاتها.. وثانيهما، ترتب عليه نقصًا فادحًا فى الإشراف القضائى أفضى إلى إجراء الاستفتاء على مرحلتين ودمج لجان بما أدى إلى فوضى بشكوك انتابت المصوتين من أن هناك تلاعبًا ممنهجًا فى الإجراءات على ما رصدت منظمات حقوقية.
والاستفتاء بذاته لا يوقف المواجهات مع الإعلام الخاص والحزبى، التى وصلت إلى عدوان خطير فى وقائعه ودلالاته على حزب «الوفد» وجريدته وبوابته الإلكترونية وحرق سيارات فى مقره دون أن يعترض رئيس أو أن يقبض على المتورطين فى تلك الجريمة قبل أن تتمدد التهديدات إلى مقارات صحف خاصة عاشت ليلة الاستفتاء وإعلان نتائجه تنتظر اقتحامًا مماثلًا، كأن مصر باتت شبه دولة يحكمها شبه قانون. «مرسى» نفسه ترسخت عنده «عقدة الإعلام»، رغم أن عشرات القنوات الفضائية التابعة للدولة تسانده، والقنوات الدينية تناصره وتهاجم معارضيه بعبارات لا سقف يحدها أو كوابح تضبط ألفاظها، فضلًا عن أكثر من (٥٠) صحيفة ومجلة قومية قام مجلس الشورى الذى تسيطر عليه جماعته بتعيين رؤساء تحريرها.
فى الشكوى اعترافان، الأول إخفاق الأداء الإعلامى للتيار الإسلامى فى كسب معركة الرأى العام.. والثانى قوة تأثير الإعلام الخاص على توجهات الرأى العام.. وهذه شهادة لصالحه قد تؤدى تاليًا لإنقضاض أكبر عليه.
فى رسالة «مرسى» المكتوبة بالإنجليزية إلى الإعلام الأجنبى اعتراف آخر بقضيتين، الأولى، أن أزمته مع الإعلام الخاص دعته إلى تجاهله.. والثانية، أن صورته فى العالم تدهورت، وهذه مسألة تقلقه أكثر من أزمته مع الإعلام الخاص.
فى الرسالة إشارة إلى إجابات على تحفظات، وإلى تصورات لما بعد الاستفتاء، كان يعتقد أن كل شىء محسوم، وأن «نعم» مؤكدة، نسب لنفسه العمل على «توسيع دائرة الحوار الوطنى حول المواد التى يمكن تعديلها فى الدستور وسيتم عرضها على البرلمان المقبل». افترض هنا أن جماعته ستكسب البرلمان ولها الكلمة الحاسمة فيه بعد أن تكسب الاستفتاء وتفرض هيمنتها على المجتمع كله، وتولى نائبه المستشار «محمود مكى» حوارًا حول التعديلات الدستورية فى غياب تام لقوى المعارضة، كأن «مرسى» يحاور نفسه والجماعة تحاور نفسها!
هذا نهج قد يتبعه «مرسى» فى حالة حسم «نعم» فى الجولة الثانية، وعود معلقة فى الهواء وتوافق لا تبدو له مقدمات.
مشكلة «مرسى» هنا أن مشكلاته تفوق قدراته، وأزماته تسبق تقديراته، الاستفتاء بذاته لا يخفض احتقانًا أو يوفر استقرارًا.
نذر الغضب الاجتماعى تتبدى فى نصوص مشروع الدستور، والاحتقان الاجتماعى قد يتسع مداه خارج أى نطاق وفوق أى حساب.
الاحتقان الاقتصادى يلاحق الاحتقان السياسى ويدفع البلد إلى مواجهات من نوع مختلف وأخطر.
الصراع عنوانه الدستور ونصه.. وصلبه المستقبل وسؤاله. من هذه الزاوية فإن معركة الدستور ممتدة.. ففى الصراع على المستقبل لا يمكن لاستفتاء على دستور استدعى انقسامًا فادحًا أن يضع خطًا فى الهواء تحته عبارة: «الأزمة انتهت».