بكلمات موحية بخشيته من تعيين نائب، قال الرئيس السابق «حسنى مبارك»: «أنا حريف رئاسة».. كان قد نجا للتو من محاولة اغتيال فى العاصمة الأثيوبية «أديس أبابا» منتصف التسعينيات وسؤال «ما بعده» يلاحقه. بكلمات أخرى تفسر وتبرر قال إنه لا يجد أمامه أحدا يصلح نائبا أو خليفة منتظرا وفق السوابق التى استدعت مرتين النائب إلى موقع الرئيس، مرة من «جمال عبدالناصر» إلى نائبه «أنور السادات» ومرة ثانية من «أنور السادات» إليه.
بدا منتشيا بنصوص عباراته وإيحاءاتها بقدرته على الانفراد بالسلطة أمام اجتماع ضمه إلى أمناء «الحزب الوطنى» على عهد أمينه العام «يوسف والى» فى قصر «الاتحادية» على ما يقول طبيب عيون شهير حضر الاجتماع.. والانتشاء بالسلطة أسس لحكم العائلة وفتح المجال لـ«سيناريو التوريث».
لم يكن «مبارك» يتمتع بمواهب سياسية تؤهله لقيادة بلد بحجم مصر وفكرته عن الرئاسة أنها حرفة تكتسب، وأنه بات حريفا فيها!، لا دورا يتطلب مشروعا يحدد أولوياته ويطل على عصره وتحديات مجتمعه.. وهذه الفكرة أفضت إلى تغليب «الأمنى» على «السياسى» وتوحش دور الأمن فى الحياة السياسية والاقتصادية. بدت صورته أقرب إلى «الإدارى» الذى يتولى تصريف الأعمال ويجد سنده فى مؤسسات القوة لا فى قوة المجتمع، وكان يرضيه أن يصفه بعض مقربيه بـ«رئيس مجلس إدارة مصر».
التوصيف ذاته ينطبق على حالة الدكتور «محمد مرسى» فى أوضاع متناقضة، فـ«مشروع التمكين» يقابل «سيناريو التوريث»، وكلاهما أدى بطرق مختلفة إلى تعطيل مشروع الدولة الحديثة وسلامة وظائفها العامة وتفشى المحسوبية وغياب معايير الكفاءة والمساواة فى بنية النظام على ما جرى فى تعيين نجل الرئيس بالشركة «القابضة للمطارات والملاحة الجوية» بصورة خرقت أية قواعد بعد شهور قليلة من تخرجه بينما مئات الآلاف من الخريجين تقادمت عليهم السنوات بلا فرصة عمل أو أمل فى مستقبل. المعنى نفسه ينصرف إلى معايير شغل الوظائف العامة فى الدولة بلا اعتبار لأية قواعد تضمن سلامة الاختيار، وتجربة «أخونة الوظائف المحلية» فى محافظة كفرالشيخ تدفع للاعتقاد بأننا أمام جماعة استبدت بها نوازع «التكويش» على الدولة دون تدبر لما يترتب عليها من نتائج وخيمة على مستقبلها.
الفارق بين حالتى «مبارك» و«مرسى» أن الأول استند فى خياراته على «تقارير الأمن» والثانى يعتمد على «ترشيحات الجماعة»، الأول خياراته أدت إلى تجريف السياسة والمجتمع وإضعاف الدولة بصورة خطيرة، والثانى تكاد تودى السياسات المستنسخة إلى دخول المجتمع فى أزمة عميقة تداعياتها تنذر بالتمدد فى بنية المجتمع وتفكيك الدولة نفسها.
مفهوم «الشركة» لا «الدولة» يهيمن مجددا على المشهد السياسى والاجتماعى بصورة لا مثيل لها منذ عهد «محمد على» ودولته الحديثة لكن بصورة أكثر خطورة وإرباكا تضع مصر فى دائرة الخطر الداهم، فرئيس الجمهورية الجديد يبدو قريبا من صورة «رئيس مجلس إدارة» لشركة توشك على الإفلاس، لا يتصرف بمقتضى مسئولياته الدستورية ويرهن صلاحياته لـ«رئيس تنفيذى» عنده صلاحية التدخل فى الملفات الحساسة بلا سند دستورى، وهذا التداخل فى الصلاحيات والمسئوليات أدى إلى إضعاف مؤسسة الرئاسة كما لم يحدث من قبل. بدت المؤسسة الأهم فى بنية الدولة المصرية ملحقة بـ«مكتب الإرشاد» ورجله القوى «خيرت الشاطر»، وأن قراراتها تصدر من «المقطم» لا من «الاتحادية»، وترتب على هذا الوضع خللا فادحا فى مؤسسات الدولة كلها التى تتخبط واحدة تلو أخرى، والتخبط ينذر بانهيارات فى مؤسستين رئيسيتين.
أولهما مؤسسة العدالة، فأحكامها مطعون عليها ومشكوك فى دوافعها، لم تعد عنوانا للحقيقة أو محلا للاعتبار العام، على ما جرى فى قضية «مذبحة استاد بورسعيد».. وكان ذلك ثمنا فادحا لتغول السلطة التنفيذية على أعمال القضاء وعدم احترامها لما تصدره من أحكام وغض البصر عن حصار «المحكمة الدستورية العليا» وتعيين نائب عام بالمخالفة لقانون السلطة القضائية والدخول فى صراع مفتوح مع القضاة. الفاتورة الباهظة للتراجع الكبير فى الثقة العامة بالقضاء أضيف إليها تراجعا آخر على صورة مؤسسة العدالة المصرية فى عالمها على ما جرى فى الامتناع عن تسليم «حسين سالم» بحكم قضائى إسبانى، والحيلولة دون استعادة الأموال المهربة للخارج بحكم قضائى سويسرى، فلم يعد أحد يثق فى العالم بأن هناك دولة قانون فى مصر أو مؤسسة عدالة تحترم.
وثانيهما مؤسسة الأمن، فأدوارها السياسية محل اتهام بإعادة إنتاج الدولة البوليسية، وأدوارها الجنائية محل تساؤل حول قدرتها على استعادة الأمن، فى الحالتين تعانى من أزمة عميقة فى بنيتها، وما جرى فى بنى سويف بيومين متتاليين يعكس بصورة رمزية الأزمة وتعقيداتها، ففى يوم الجمعة انضمت إلى المحافظات الغاضبة على خلفية تصريحات منفلتة لرئيس الحكومة «هشام قنديل» عن نسائها، والتصريحات بنصوصها تؤكد عدم صلاحيته لتولى المنصب الذى يشغله، وفى اليوم التالى شهدت شوارعها مواجهات أقرب إلى حروب «المافيا»، مشاجرات بالأسلحة الآلية أدت إلى استشهاد ضابط شرطة تبعه القبض على أحد المتهمين والتنكيل به «خارج القانون» بالمخالفة لفكرة الدولة.. انتقام بالسلاح وصل إلى تخوم الموت لكنه لم يمت و«العصابة» التى ينتمى إليها أخرجته من المستشفى العام بسلاحها، كأننا أمام مشهد من شريط سينمائى عن عصابات إيطالية تفرض سطوتها فى صقلية.
الحدث الدموى بدلالاته يعكس مدى التدهور المزدوج فى مؤسستى «العدالة» و«الأمن»، فلا أحد يعتقد أن ثمة عدالة ترتجى أو أمنا ممكنا.. والأخيرة تجد نفسها فى مواجهة أخطار «الجريمة المنظمة»، وطرفا فى مواجهاتها قبل أن تتعافى من أزمتها أو أن تضمن شعبها فى صفها.. ومن شروط تعافيها ألا تستدعى لأدوار سياسية مباشرة تنحاز بمقتضاها لطرف فى مواجهة آخر، وأن يعاد هيكلتها بما يضمن حقوق الإنسان المصرى الذى يبدو مستباحا فى مشاهد تتجاوز عهد وزيرها الأسبق «حبيب العادلى».
فوضى السلاح تجلت ببشاعة فى بنى سويف لكنها مرشحة أن تأخذ مدى أخطر، فالسلاح المتقدم خزائنه تستعصى على الملاحقة الأمنية، وما ضبط من سلاح مهرب حتى الآن فى حدود (١٠٪) على أقصى تقدير.. وقد هرب إلى مصر، وبعضه ذهب إلى سيناء، سلاح متقدم عبر الحدود الليبية.. وهذا السلاح يمكن استخدامه على نحوين خطيرين. الأول جنائى، وهذا يهدد المجتمع ويروعه ويدوس ما تبقى من هيبة الدولة.. والثانى سياسى، وفيه ترويع متبادل لأطراف اللعبة السياسية، فالسلاح ليس حكرا على أحد، والميليشيات ليست حكرا آخر، وعندما ينفلت العنف من عقاله فإن البلد داخل لا محالة إلى تدهور مزدوج فى الدولة والمجتمع ينذر بانهيارات تفوق الكوابيس. والكلام عن الميليشيات وأجهزة تنصت خاصة خارج الدولة ومؤسساتها يضرب بقسوة أية رهانات على العدالة والأمن ويعطل فى الوقت نفسه الأجهزة السيادية من أن تقوم بأدوارها، وقد فوجئ وزير مؤثر استدعى للرئاسة لـ«اجتماع أزمة» أثناء التظاهرات الاحتجاجية الغاضبة على «الإعلان الدستورى» بالرئيس يضع أمامه تقريرا سياديا لإبداء الرأى فى مقترحاته. لم يكن هناك شيئا جديرا بالالتفات إلى ما ورد فيه، لا التقرير اقترب من فكرة إلغاء «الإعلان الدستورى» ولا ممثلو الجهات الأمنية تطرقوا إليها من قريب أو بعيد.. وتاليا أبدى ممثل جهة سيادية ارتياحه لإلغاء «الإعلان الدستورى» بعد أن اضطر الرئيس لاتخاذ هذه الخطوة، وقال لنفس الوزير: «كنت أود أن أقترح هذا القرار».
لماذا تتصرف أجهزة الدولة على هذا النحو؟.. ربما تخشى أن تؤول اقتراحاتها كأنها دعم للمعارضة.. أو ربما تعتقد أنه ليست هناك دولة بالمعنى الذى اعتادته، وأن هناك دولة موازية لديها مصادر معلوماتها وتأخذ قرارات الدولة وفق حساباتها الخاصة، ولا تثق فيما يصدر عن مؤسسات الدولة من اقتراحات.
المعضلة هنا أن الدولة التقليدية بلا دور والدولة الموازية بلا كفاءة.. الأزمة العميقة تتمدد فى بنية الدولة والمجتمع بلا أفق سياسى للحل واستراتيجية الجماعة تعمل على استنفاد طاقة الغضب وخلق وقائع على الأرض على ما جرى فى «التأسيسية» وتعطيل «الدستورية» من النظر فى قضايا معروضة عليها والاستفتاء على دستور بلا توافق عليه، والتلاعب بفكرة الحوار بلا جدية فيه، حتى الوصول إلى الانتخابات النيابية رهانا على كسبها بالوسائل ذاتها التى كان يتبعها «الوطنى».. وهو رهان على «التمكين» لا «الانفراج» يدفع بحقائقه إلى تعميق الأزمة، فالديمقراطية لا تلخصها صناديق الاقتراع وحدها والشرعية لا يصونها التلاعب فى نتائجها.. خوض الانتخابات بلا ضمانات لنزاهتها يدفع لليأس، ولليأس عواقبه، ونوازع العنف فى صلبها.
هناك قضيتان يساعد حلحلتهما فى تطويق الأزمة العميقة عند حدود آمنة.. أولاهما حكومة توافق وطنى توفر هدنة سياسية تسمح بمواجهة موجة انهيارات اقتصادية متوقعة فى غضون الشهور الثلاثة المقبلة تتلوها ثورة جياع بحسب تقارير متواترة، وتضمن فى الوقت ذاته نزاهة الانتخابات النيابية وعدم استخدام وسائل الدولة فى كسب نتائجها.. وثانيتهما تغيير النائب العام وفق القواعد الدستورية التى تنقل هذه المهمة إلى المجلس الأعلى للقضاء، مما يخفض الاحتقان مع مؤسسة العدالة ويرد اعتبارها تدريجيا.
الحلول السياسية ممكنة لكنها تتصادم مع حسابات الدولة الموازية ومشروعها فى «التمكين»، وهو فى حقيقته «مشروع أزمة عميقة» لا يمكن كسبها فى نهاية المطاف