كيف نقرأ رسائل البحر؟ - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 6:43 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كيف نقرأ رسائل البحر؟

نشر فى : الخميس 18 مارس 2010 - 10:03 ص | آخر تحديث : الخميس 18 مارس 2010 - 10:03 ص

 هناك أفلام تعتبر من علامات السينما المصرية مثل المومياء لشادى عبدالسلام، والزوجة الثانية لصلاح أبوسيف، والمصير ليوسف شاهين، وبحب السيما لأسامة فوزى، واختيرت هذه الأفلام ضمن أفضل مائة فيلم للقرن العشرين، ويعتبر فيلم رسائل البحر لداوود عبدالسيد امتدادا لهذه الأفلام المتميزة.

وفى رأيى أن ما يجمع بين هذه الأفلام هو وجود رؤيا واضحة المعالم للمخرج يمتزج فيها السياسى بالفكرى مع الثقافى والروحى والمجتمعى معا.

إنها توليفة إنسانية تضع يدها على مواجع الإنسان ومعاناته وإحساسه بمحدوديته فى الوقت الذى فيه يمتلئ بطاقات عظمى تجعل سقف طموحاته لا نهائى.. وهو يعيش هذا الصراع بين الممكن والمستحيل.. بين تحقيق الطموح المادى من خلال تحطيم معظم القيم الأخلاقية وبين تحقيق الذات من خلال الانحياز للنوازع الروحية والإنسانية متساميا على الماديات. ناقش داوود عبدالسيد هذا الفكر الوجودى والصراع الداخلى بشكل مؤثر وعميق، مشيرا إلى بعض الدلالات لكى نقف مع أنفسنا متأملين أين وكيف وماذا ولماذا نحن؟! وسوف ألخص ما استطعت أن اخرج به من خلال مشاهدتى للفيلم فى بعض النقاط المحددة

أولا: أن هناك قوى تفرض على الإنسان اختيارات معينة.

لقد أُجبر بطل الفيلم الذى نشأ فى أسرة ثرية محترمة أن يلتحق بكلية الطب ليكون على مستوى لائق بعائلته، فهو أمل الأب والأم والأخ الذى هاجر إلى الولايات المتحدة فى الوقت الذى لم يكن هذا التوجه يشبع رغباته وطموحاته فهو يحب الفن والموسيقى والشعر، ونتيجة هذا الصراع الداخلى وبسبب حساسيته الشديدة كشخصية رومانسية متمردة، توجه تمرده إلى الداخل بدلا من مواجهة والديه وأخيه،فأصيب بداء فى النطق فكان (يتهته)، وكان هذا الداء كافيا له ولأسرته أن يلتمسوا له العذر فى فشله فمرضاه لا يفهمونه وزملاؤه والممرضات يضحكون عليه مما برر له ترك العمل بالطب.

أما البطلة، فقد كانت ضحية الفقر الشديد ولذلك أجبرها هذا الفقر أن تكون زوجة ثانية لثرى يؤجر لها شقة بالإسكندرية وسيارة وسائق ويزورها مرة أو اثنتين فى الشهر.. ظنت أنها بهذا تعلن انه لم يكن هناك اختيار فى يدها فهى مرغمة على ذلك، لكى تهرب من الفقر ولو على حساب وجودها.

أما البودى جارد فنظرا لقواه العضلية لم يجد أمامه إلا العمل فى الملاهى الليلية، وكانت قوته الغاشمة سببا فى قتل إنسان آخر رأى فى عينيه وهو يموت توسلا ترجمه قائلا:

(إحنا متفقناش على كده) لكنه سار فى نفس الطريق بعد أن صمم على عدم ضرب أى إنسان آخر. كل هؤلاء كانوا بحسب نظرتهم للأمور ضحية لقوة أعلى منهم اجبرتهم على الاختيار الخاطئ، وكانوا كعصافير داخل أقفاص ذهبية غير قادرين على الهروب خوفا من المجهول الذى سوف يلاقيهم إن امتلكوا حريتهم.

ثانيا: إن هناك قوى تبرر هذه الاختيارات المعنية بالدين أو القانون.

أى اختيار خاطئ لأى إنسان يستطيع أن يجد المبرر له أو ما يجعله شرعيا سواء من خلال تفسير خاطئ للدين أو القانون أو لبعض القيم الإنسانية، فخضوع البطل لوالديه وتحقيقه لآمالهم على حساب تحقيق وجوده، هو أمر ممدوح فى مجتمعنا.. فالأبناء هم ضحية رغبات واختيارات والديهم، ومن يخرج عن هذا الإطار يكون ابنا متمردا وعاصيا..

فالطفل الذى لا يعترض على رأى والديه فى طفولته هو المؤدب والمتربى، والذى لا يعارض أستاذه أو يكثر من التساؤلات هو متدين، والذى يخضع لرؤسائه وينفذ الأوامر ولو خطأ هو الأجدر بالترقية والأكثر تهذيبا وتفضيلا عند اختيار المناصب العليا.. الخ.

وفى حوار بين الثرى وزوجته الثانية الشابة كانت الزوجة تشعر داخليا بأنه لا فرق بينها وبين أى عاهرة، كانت تحتقر ذاتها فى علاقتها الزوجية فهو قد اشتراها بأمواله، أما هو فقد كان منطقه إن هذا شرع الله وأنها حلاله، وانه وفر لها حياة لم تكن تحلم بها.

وهو نفس منطق الزواج للقاصرات من الأثرياء العرب انه ثمن يدفع وصفقة تتم لكن بمباركة تفسير خاطئ للدين. فالدين عندما يشرع للزواج يهتم أولا بإنسانية الإنسان وتوافق الزوجين لكن دائما هناك مبرر لمن يحتاجه فى أمور أخرى.

أما الثرى صاحب السوبر ماركت الذى اشترى العمارة التى يسكن فيها بطل الفيلم، والأسرة الإيطالية، كان يبدو فى منتهى الطيبة والأخلاق والتدين، فهو من حقه أن يهدم المنزل وقد استخرج ترخيصا بالهدم وهو يقدم للسكان أكثر من اختيار إما شقة بديلة أو أموال نقدية، ومبرره هنا قانونى ودينى ولا احد يستطيع أن يلومه حتى لو أساء إلى عمارة المدينة الأثرية والرائعة أو سمعة مصر لدى الأجانب المتمصرين الذين قرروا السفر وترك مصر ولا ذكريات السكان.. الخ، وهذه كلها لا قيمة لها لديه.

وقد رأينا فى السنوات الأخيرة تخريجات دينية شرعية للضغط على الضعيف، وإن الثراء مهما كان مصدره من نعم الله بل هناك نظريات عن لاهوت وفقه الرفاهية، وتخريجات دينية تؤجج الفتنة الطائفية، وأخرى للاستسلام لكل ما هو فيه ظلم وافتراء على انه تسليم لله وخضوع له، من خلال الخضوع لأولى الأمر، ولم ينس المخرج الإشارة إلى عنف البوليس الملحوظ ضد المواطن المسالم بحجة تكدير الأمن والنظام وكله بالقانون خاصة لو كان طوارئ.

ثالثا: إن هناك قوى يهمها أن يعيش الإنسان حرا

وهذه القوى أحسها الإنسان منذ وجوده على الأرض وأحس برسائلها من خلال الطبيعة، وأعطاها تفسيرات مختلفة.. فاعتبرها الأوائل آلهة تتحكم فى مصائر البشر وتقيم حوارا معه، واعتبرها البعض الآخر عقلا جبارا سماه اليونان (الكلمة ــ لوجوس) أى العقل المتحكم فى الطبيعة وجميع الكائنات، واعتبرها الآخرون كائنا عظيما (الله).

لكن البشر فى ممارساتهم مع هذه القوى حولوا كل هذه الأفكار السامية التى تدعو الإنسان إلى صنع مصيره إلى مؤسسات يقومون بحمايتها ووضعوا على ألسنتها رغباتهم، وصنعوا لها شرائع وقوانين، وصار رفض الآخر المختلف وتفكيره أحد الأساسيات، واحتكروا الحياة بعد الموت عليهم، ونسوا الرسائل الأصلية لهذه القوى والتى كانت تدعوهم إلى الحرية وقبول الآخر وصنع المصير واحترام إنسانية الإنسان، وهكذا تحول الداعى إلى الحرية إلى المستعبد للبشر.

ولقد كان البحر فى إحدى مراحل تطور الإنسان هو أحد الآلهة المجهولة الذى يأتى بالطوفان وهو الذى يحمل الفلك بالبشرية لإنقاذها (وهذا الفكر سابق للأديان الإبراهيمية ــ ملحمة جلجاميش).. وكان حمل البحر للفلك وإنقاذ من فيه رسالة حياة وحب ومصير، وهنا يستحضر داوود عبدالسيد البحر كمصدر لرسائل الحب والحرية والاختيارات الصحيحة.

ورسالة البحر فى الفيلم لا نحتاج لمعرفة لغة البحر لكى نقرأها ونفهمها، ولا يحتاج البحر أن يحدثنا بلغته، فالرسالة التى داخ البطل فى ترجمتها واكتشف أنها من لغة تختلف عن كل اللغات، ترجمتها الحبيبة ببساطة قائلة له بما معناه أنه لا حاجة للترجمة.. فهى إما صلاة راهب أو قصيدة شعر أو رسالة من بحار لأسرته أو واحد بيهزر. هذا كله يعنى الإنسان فى سموه وقبوله للآخر والعناية والاهتمام به.

إنها رسائل ترفض العنف والاحتقار والحرب وتدعو إلى أن يؤمن الإنسان بذاته ووجوده حتى يستطيع أن يحقق ذاته، ويجعل واقعه أفضل ووجوده له معنى.

لقد كانت نقطة التحول فى الفيلم عندما امسك أبطاله بإرادتهم الحرة فتمردوا على اختيارات الآخرين والطبيعة والظروف لهم. كانت هناك سلسلة من القرارات اتخذها بطل الفيلم بأن أغلق منزل الأسرة فى الريف وترك عمله ورفض الهجرة إلى أخيه فى أمريكا، وذهب إلى شقة الأسرة فى الإسكندرية لكى يمارس حريته. أما بطلة الفيلم عندما أحبت البطل استطاعت بعد معاناة معه وصراع مع ذاتها أن تتخذ القرار الصحيح بكامل حريتها الذى يصنع مصيرها.

والبودى جارد والذى كان رافضا لإجراء العملية (سرطان فى المخ) حتى لا يفقد الذاكرة اختار بكامل حريته أن يجرى العملية وأن يتغلب على فقدان الذاكرة بأن يوصى أخته الأصغر التى يحبها جدا أن تأخذ بيده بعد العملية تذكره بحياته السابقة، وذلك حتى يهزم مصيره.. وكل هذه القرارات الحرة الصحيحة كان منطلقها الحب. فالحب الحقيقى هو الحل للإنسان لكى يعيش سعيدا. لقد عرف هؤلاء جميعا كيف يقرأون رسائل البحر ويترجمونها إلى قرارات على أرض الواقع غيرت واقعهم ومصيرهم.

إن المنظر الأخير فى الفيلم يعلن أنه لا توجد قوة فى الكون مهما كان جبروتها تفرض على الإنسان اختياراته. فعلى سطح البحر ترى السمك الميت بالديناميت الذى يشير إلى قوى المجتمع الفاسد، ووسط هذا الموت كان المركب الصغير الذى فيه البطل والبطلة معا أعلى الأمواج وهو منظر يعشقه داوود عبدالسيد (برجاء استرجاع فيلم الكيت كات). فبالحب فقط وبدون أى إمكانات ينتصران بإرادتهما وحدها ويصنعان مستقبلهما معا... فدائما يوجد أمل فهل يمكنك ــ عزيزى القارئ ــ أن تقرأ وتفهم رسائل البحر؟

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات