وتلك الأيام نداولها بين الناس.. عن الصيام والإفطار - أكرم السيسى - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 4:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وتلك الأيام نداولها بين الناس.. عن الصيام والإفطار

نشر فى : الخميس 21 مارس 2024 - 10:15 م | آخر تحديث : الخميس 21 مارس 2024 - 10:15 م

من الكوارث التى ابتليت بها المجتمعات الإسلامية فى عصرنا الحديث ظهور فئة من الشباب الذين أطلقوا على أنفسهم «الدعاة الجدد»، وجلهم لم يدرسوا المواد الشرعية دراسة منهجية فى أماكن متخصصة كالأزهر الشريف، سواء فى معاهده أو جامعته، فأصبحوا «مدعين لا دعاة»، وقد اعترف أحدهم أخيرا بأنه يندم على كثير من فتاواه وهو فى مقتبل حياته لأنه كان متسرعا لرغبته فى السعى للظهور، وشد انتباه الناس!
من أسوأ ما قدمه هؤلاء «الأدعياء» فتاواهم وتفسيراتهم وآراؤهم التى تتميز بالتشدد والتطرف والمبالغة، هذه فى الحقيقة صفات أدعياء الدين فى كل الديانات، وفى كل العصور التى يغيب عنها التنوير والتعليم الجيد، كما هو الحال فى مجتمعاتنا العربية فى الوقت الحالى؛ نسمعهم يركزون على أنواع العذاب فى الآخرة وفى القبور.. وفى هذا تخويف للسامع من الله سبحانه وتعالى، ومن هنا يستمد الداعية هيبته وسيطرته على الناس، وذلك من خلال صور العذاب المختلفة التى يرعب بها المستمعين، بينما الله سبحانه أهم صفاته الرحمن الرحيم، كما أنه وصف رسوله (ص) ورسالته بقوله: «وما أرْسلْناك إلا رحْمة للْعالمين»، وكانت من أكبر مميزات شخصية النبى (ص)، وكما قالت عنه زوجته عائشة رضى الله عنها أنه «ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما!».
• • •
لعل من أبرز ما يثبت صحة نظريتنا قصة الأعرابى الذى قال لزوجته: «أنت طالق حتى حين»، فعندما أراد أن يردها احتار فى معنى قوله «حين»، فذهب للنبى (ص) ليسأله متى يعود إلى زوجته، فلم يجده، فتوجه إلى أبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى (رضى الله عنهم)، فأعطاه كل منهم فتوى مختلفة فى معنى كلمة (حين)، حيث قال له الصديق: حرمت عليك زوجتك حتى الموت، فتركه وذهب إلى أمير المؤمنين الذى قال له: حرمت عليك أربعين سنة، فتركه وذهب إلى ذى النورين فقال: حرمت عليك عاما كاملا، فتركه وذهب إلى فقيه الأمة فقال: حرمت عليك ليلة واحدة، فازدادت حيرة الأعرابى أكثر، فبأى رأى يأخذ فى تفسير معنى «حين»؟
عاد الأعرابى إلى الرسول (ص)، وحكى له الآراء المتنوعة فى تفسير كلمة «حين»، فاستدعى الرسول (ص) أصحابه وسألهم:
لماذا يا أبا بكر حرمت عليه زوجته حتى الموت؟ فأجاب بقوله تعالى: «فمتعناهم حتى حين»، ومعنى «حين» هنا حتى الموت؛ ثم سأل عمر لماذا حرمت عليه زوجته أربعين عاما؟ فذكر قوله تعالى: «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شئيا مذكورا»، و«حين» هنا تشير إلى أن آدم مكث فى الجنة أربعين سنة قبل أن ينزل الأرض؛ ثم توجه إلى عثمان سائلا، لماذا حرمت عليه زوجته عاما؟ فاسترجع قوله تعالى: «مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة تؤتى أكلها كل حين»، و«حين» هنا تشير إلى أن أكثر الثمر يثمر كل عام مرة؛ وأخيرا توجه النبى (ص) إلى على، وسأله عن سبب فتواه بتحريم زوجته لليلة واحدة، فذكر له قوله تعالى: «فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون»، و«حين» هنا تعنى «ليلة»، ففرح النبى (ص) من أصحابه، وقال للأعرابى: خذ برأى على بن أبى طالب فإنه «أيسر» لك، وكانت هذه الرواية سببا فى أن يصف النبى أصحابه بقوله: «أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»، وبهذا استحق على بن أبى طالب كرم الله وجهه لقب «فقيه الأمة»، ووصفه النبى (ص) بقوله: «أنا مدينة العلم وعلى بابها»!
هكذا منهج الإسلام وفكر رسوله (ص)، ففى صحيح مسلم عن أبى موسى، قال: كان رسول الله (ص) إذا بعث أحدا من أصحابه فى بعض أمره قال: «بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا»، وهو القائل أيضا: «إن الدين يسْر، ولنْ يشاد الدين إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبْشروا»؛ هذا المنهج السمح يخالفه الأدعياء الجدد، وللأسف الشديد، أصبحت المجتمعات الإسلامية متأثرة بفكرهم المتشدد الملىء بأخطاء ومبالغات كثيرة يمكن أن نطلق عليها «بدعا»، وبالمناسبة كل بدعة فى النار؛ ولعل من أهم هذه البدع التى ظهرت منذ سنين قليلة الدعوة لصيام الأيام العشر الأولى من شهر ذى الحجة، وهو ما لم يثبت عن النبى (ص) أو الصحابة، والأكثر من هذا ظاهرة تكرار الحج لبيت الله الحرام، وتعدد العمرات بمسميات لم تأت فى الأثر مثل عمرة رمضان، وأخرى لشعبان وثالثة لنصف شعبان، ورابعة لرجب، وخامسة على روح المرحومين من الأعزاء من أمثال الوالدين والأجداد والأزواج...إلخ!
ومن الثابت شرعا أن الحج ليس فرضا على المتوفى، ولا العمرة أيضا، ولكن جاءت الوصايا بالتصدق على أرواحهم للفقراء والمساكين، وما أكثرهم فى هذا الزمان، فالمستشفيات تعج بأعداد هائلة من المرضى الذين لا يجدون لا الأدوية، ولا الأسرة التى ينامون عليها، ولا كثيرا من المستلزمات الطبية، هذا فضلا عن أعداد المستشفيات التى لا تكف حاجة المجتمع المكون من أكثر من مائة مليون نسمة؛ وفى التعليم أيضا نجد فصولا بدون أسقف فيها أكثر من سبعين تلميذا يجلسون على الأرض؛ ونجد مساكن للفقراء بدون خدمات أساسية كالماء ومصارف المجارى؛ هنا نستطيع أن نقول «فليتنافس المتنافسون»، خاصة وأن الدولة لا تستطيع أن تقوم بمفردها لسد هذه الفجوات، وهناك من يستنزف مواردها الدولارية لسد احتياجات أمور بدعية تخدم اقتصاديات دول أخرى، وننسى القول الشائع «ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع» حتى لو كان بيت الله الحرام إلا إذا كان لأداء فريضة الحج التى فرضها الله مرة واحدة، ولو كان الله يريدها متعددة لأطال فى عمر نبيه (ص) لعام آخر ــ وما هذا بعصى على الله ــ ليعطى إشارة بإمكانية تكرار الحج، فهؤلاء صدق قوله تعالى فيهم: «قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا» (الكهف: 103ــ104).
• • •
هذه المبالغات، وهذا الفكر البدعى ينتقل لعبادات أخرى، فقد أجاز الله الإفطار فى رمضان لظروف صحية أو حياتية كالسفر؛ فسمح للمريض والمسافر بالإفطار على أن يعوض أيام إفطاره بالصيام فى وقت آخر، وأما إذا كانت صحته لا تسمح بالتعويض فعليه بالفدية بإطعام فقير عن كل يوم منعه مرضه من أداء الصيام، ولكن المتطرفين والمتشددين يفعلون كمن قرأ نصف الآية «ولا تقربوا الصلاة» وتغاضى عن بقيتها «وأنتم سكارى»، هكذا فعلوا مع آية الصيام: «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون، شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون» (البقرة:183ــ185). لقد كرر الله سبحانه مرتين السماح بالإفطار للمرضى ولمن على سفر، ورغم ذلك ركز المتشددون فقط على قوله: «وأن تصوموا خير لكم»، كما تجاهلوا أيضا قوله تعالى: «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر»، وتغافلوا عن قول النبى (ص): «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته».
هذا الأمر جعل جمعيات مرضى السكر تناشد المرضى بألا يصوموا ــ بعد سؤال الطبيب ــ لأن فى ذلك خطورة على حياتهم، علما بأن الحفاظ على النفس من أهم مقاصد الشريعة، وقد تفضل فضيلة الدكتور شوقى علام ــ مفتى الديار المصرية ــ مؤكدا للمرضى أن الصيام يصبح حراما إذا ارتقت خطورته على صحة المريض إلى حدود التهديد ‏بالموت أو الغيبوبة، كما أوضح أن المريض فى هذه الحالة «يؤجر على الفطر ويؤثم على الصيام»، وذلك لأن التكليف بالصيام يشترط فيه أن ‏يكون الإنسان فى وضعه الطبيعى، مستشهدا بقول الله تعالى: «لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان ‏بكم رحيما».
فى الحقيقة، لا يعلم المتشددون والمغالون فى أمور الدين أن حياة الإنسان دول بين القوة والضعف، وبين الفقر والغنى، وبين الحزن والفرح، وبين النصر والهزيمة وبين النجاح والفشل...، وكما يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه: «نحن نفر من قدر الله.. إلى قدر الله»، فالإنسان يخلقه الله طفلا ضعيفا، ثم يصبح شابا يافعا قويا، وفى نهاية حياته يصبح شيخا وكهلا، ويعود إلى حالته الأولى ضعيفا ومنهكا، فكل مرحلة من مراحل حياة الإنسان لها ظروفها ومقتضياتها، فالإنسان غير مكلف بأى عبادات عندما يكون طفلا، يحتاج للرعاية الصحية والمالية والعاطفية، ولكن عندما يكون رجلا قويا يكلف بكل العبادات إلا فيما لا يستطيع القيام به كالحج لمن استطاع إليه سبيلا، تطبيقا لقوله: «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها»، وعندما يكون شيخا لا يستطيع الصيام فعليه إطعام الطعام للفقراء لأن ذلك من الأمور المحببة فى الشرع خاصة فى رمضان، وبهذا يتحقق التكافل الاجتماعى، وتكتمل مسيرة الحياة، وتنفذ مشيئته سبحانه وتعالى كما فى قوله: «وتلك الأيام نداولها بين الناس» (آل عمران:140).

أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات