«النقشبندى».. إجابات الفن الساحرة! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 12:23 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«النقشبندى».. إجابات الفن الساحرة!

نشر فى : السبت 21 مايو 2022 - 7:40 م | آخر تحديث : السبت 21 مايو 2022 - 7:40 م
أكرِر بلا ملل أن الفنَ ليس فى المادة، وإنما فى تشكيل المادة.
موضوع أى رواية، وشخصياتها، سواء كانت واقعية أم خيالية، لا يصنع فنا، إلا بقدر براعة الكاتب فى تشكيل الموضوع والشخصيات، باتجاه فكرة أو تيمة أو معنى. يحدث كثيرا أن تكون قطعة القماش ثمينة وغالية، فيبدد قيمتها ترزيٌ فاشل، والعكس أيضا صحيح: مادة بسيطة، وشخصيات محدودة، ينحت منها الكاتب رواية مدهشة.
خذ مثلا هذه الرواية الأولى لمؤلفتها رحمة ضياء، والتى صدرت عن دار الشروق بعنوان «النقشبندى»، وتأمل معى كيف استوعبت رحمة، بموهبتها وذكائها، أن رواية عن حياة المنشد وقارئ القرآن الفذ سيد النقشبندى، لا يكفى أن تسرد حياة الشيخ العظيم، بل إنها يجب أن تجد معنى وراء رحلته، لا يجب أن تكون معلوماتها واقعية فحسب، وإنما عليها أيضا أن تستكمل الصورة بالخيال، إنها ليست دراسة عن الشيخ النقشبندى، وإنما رؤية المؤلفة الفنية للشخصية وتاريخها.
لا شك أن المؤلفة جمعت ما توفر من معلومات عن النقشبندى، لكنها عندما كتبت لم تخضع للمادة، وإنما أخضعت المادة لمنطق الكتابة، لرؤيتها هى، ولهواجسها وأسئلتها التى فجرتها رحلتها لكتابة رواية عن «النقشبندى».
التشكيل يمتد فى الحقيقة إلى كل جزئية من أجزاء النص، وكلها اختيارات فنية موفقة، أولها وأهمها جعل بطولة الرواية مشاركة بين النقشبندى، وامرأة على مشارف الأربعين تُدعى «نصرة»، زوجة وأم، تعمل محاسبة فى هيئة الصرف الصحى، ولكنها تقرِر أن تكتب رواية عن «النقشبندى» بعد أن وصلت حياتها إلى طريقٍ مسدود، فصارت سجينة حياة عادية، آلية، مخاوفها وآلامها ورَطتها فى المزيد من الخوف والألم، فأخذت تسأل عن معنى حياتها، بعد كل هذه السنوات المملة.
تعود نصرة الآن إلى حلم الكتابة القديم، وقد اختارت «النقشبندى» تحديدا لأن صوته كان ملاذ طفولتها البائسة، ولأنها تظن أن الرجل يمتلك إجابات لأسئلتها، كما أنها تعتقد أن حياة الشيخ كانت عنوانا على سلامٍ واستقرار لم تعرفه أبدا.
هذه الحيلة اللامعة ضربت أكثر من عصفورٍ بحجر واحد: فقد جعلت الحكاية مزدوجة، كقصة نصرة والنقشبندى معا، وسؤال التحقق والاختيار يطرح فى النص مرتين، مرة من خلال حياة نصرة، ومرة من خلال تفاصيل حياة النقشبندى، والرحلة أيضا لها وجهان: زمنان وشخصيتان تنتميان إلى جيلين مختلفين.
تكنيك السرد أيضا أكثر ثراء وعمقا، نصرة هى التى تسرد الحكاية كلها، ولكن روحها الهائمة، إثر حادث فى مدينة طنطا، تحاور روح النقشبندى العائدة اشتياقا إلى الأرض، صوته حاضر فى الحوار مع روح نصرة، ورحلتهما تمتد من طنطا إلى الإسكندرية فالقاهرة.
ولكن نصرة أيضا تكتب فصولا من روايتها عن «النقشبندى»، استدعاء من حوارها معه، فكأننا أمام بناء متداخل يجمع بين حكاية بطل الرواية النقشبندى، وحكاية مؤلفتها نصرة، وفصول مكتوبة من الرواية، وكواليس تأليف الرواية، وأسئلة رحمة، المؤلفة الأصلية، من خلال كل هذه المستويات.
تتجاوز قيمة رواية «النقشبندى» إذن السرد الذى يعطيك معلومات عن الشيخ، ورصيد الرواية من ذلك وفير بالمناسبة، إلى طرح تساؤلات، ووضع تأملات، من خلال حياة الرجل، وحياة نصرة. تتقاطع حياة الشخصيتين، وتتحولان إلى أرواحٍ حرة محلقة فوق العالم، تعترف وتحكى بحرية، تفضفض نصرة عن علاقتها المؤلمة مع أبيها العصبى، والتى أورثتها الخوف، ونكتشف أحزان النقشبندى، لأن والده كان مشغولا عنهم بالتصوف، ولأنه انفصل عن أمه، فأخذت طفلها إلى بلدها فى طهطا، وتزوجت شخصا آخر.
تسأل نصرة الشيخ عن معنى السعادة فى الأشياء الصغيرة، وتعرف أن حياة الشيخ لم تكن دوما هانئة وميسرة، ذاق الخذلان مثلها، وذاق الإحساس بالظلم، عندما رفض الشجاعى اعتماده منشدا فى الإذاعة، بدعوى أن صوته لا يصلح إلا للموالد، رفضوا أيضا لفترة طويلة أن يعترفوا به قارئا للقرآن.
لم تكتشفه الإذاعة إلا وهو على مشارف الخمسين، حياته كانت شاقة ومليئة بالمصاعب، ذهب إلى طنطا إثر حلم دعاه أن يكون فى جوار السيد البدوى، وهناك بدأ من الصفر مع زوجته وأولاده، ظلَ دوما وراء حلمه، حتى هوايته فى كتابة الخط العربى، استعاد دراستها بعد أن تجاوز سن الشباب.
لم يعد النقشبندى، بهذه المعالجة الفنية، مجرد شخصية عظيمة وكفى، ولكنه صار شخصية روائية تغير حياة نصرة، ولعلها تغير حياة كل قارئ، فتجعله مؤمنا بالسعى، بالبحث عما يطفئ أشواق القلب.
وبين صوت ملائكى من السماء، وطبيعة بشرية عادية، تحاسب نفسها، ولا تدعى الكمال، تعاد قراءة حياة النقشبندى بالكامل من جديد، وتصبح الحكاية عن الصوت وصداه معا.
نرى النقشبندى بالعمق، وليس من السطح، كإنسان مكافح انتصر على نفسه، وليس كرجل خارق، أو كامل الأوصاف، وهذا أيضا اختيار فنى جيد يتناسب مع المعالجة، لأنه يقرب بين الرجل وبين نصرة، بل ويبدو مع نهاية النص، كما لو أن الشيخ قد صار أبا بديلا لنصرة.
تكتب عنه ببساطة آسرة، تجد فى حياته العائلية مع أولاده، ما افتقدته مع أسرتها، ويعترف لها بدور شيخه محمد سليمان فى إنقاذه من الغرور والكبرياء، وتعالج الرواية كذلك علاقة الشيخ بزوجته الثانية هنية بكل جرأة.
تستطرد رحمة أحيانا وراء الحكايات والتفاصيل، ولكن سرعان ما يسترد بناؤها قوته، تحتفظ بمفاجآتها حتى الفصول الأخيرة، ولا تغلق القوس، بل تجعل سؤال الاختيار مفتوحا، وتنقله ببراعة إلى كل قارئ.
اختار النقشبندى التصوف والذكر، عرف موهبته، وعمل عليها، رغم أنه لم يدرس المقامات الموسيقية، كان فى قلب الحياة الواقعية، وفى قلب الحياة الروحية معا. أما «نصرة» المهزومة فقد انتصرت أخيرا بأن واجهت نفسها وضعفها، وبأن أدركت حتمية الاختيار، وقهر الخوف. هكذا أيضا حقق الفن معجزته الخاصة:
أجاب عن أسئلة رحمة ضياء المؤرقة، من خلال واقع النقشبندى، وخيال نصرة.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات