عشرة استعمالات للحذاء - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 8:25 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عشرة استعمالات للحذاء

نشر فى : الجمعة 21 أكتوبر 2016 - 10:00 م | آخر تحديث : الجمعة 21 أكتوبر 2016 - 10:00 م
عندى كتاب قديم مُهترئ الأوراق عليه عنوان مثير: «كلام فارغ»، وهو لا يبارح أرففَ مكتبتى منذ اقتنيته وأنا بعد فى طور الطفولة. الكتاب لواحد مِن ألمع الساخرين الراحلين؛ أحمد رجب، ونسختى لا تاريخ عليها يفصح عن سنة النشر، ولا معلومات إلا عن الدار التى أصدرتها وهى دار الوطن العربى. قرأت الكتاب عشرات المرات بلا مبالغة وفى كل مرة أضحك للأشياء نفسها حتى بعد أن مرت بى السنون، وفى كل مرة أكتشف أشياء جديدة تضيف إلى الضحك ضحكًا مضاعفًا ربما يصل إلى حدّ البكاء.

فى الكتاب مجموعة مِن المقالات أو الحكايات المازحة، وكلها يحمل سخريةً شديدةً مِن واقعنا الذى يصعب الهروب منه أو التعايش معه إلا مِن خلال الهزل. تتطرَّق الحكاياتُ إلى مواضيع شتّى وأغلبها يتداخل مع تفاصيل حياتنا اليومية التى تبدو إلى الآن كما هى؛ لم يعترها أى تغيُّر منذ ظهر الكتابُ فى الأسواق. أظن أننى حصلت على النسخة التى بين يديّ فى نهاية الثمانينيات، فالخطّ الذى نقشت به اسمى على الصفحةِ الأولى يشى ببداية أعوامِ المرحلة الإعدادية أو نهاية الابتدائية.

***

لى فترة لم ألمس الكتاب لكنه قفز منذ أيام قليلة إلى شاشة ذاكرتى؛ بغلافه الذى يحمل صورة الكاتب راكبًا عربة مِن عربات البلدية والأوراق تتناثر مِن حوله. كنت أتصفَّح الجرائد اليومية فى الصباح تصفُّحًا سريعًا قبل القراءة المسائية المتأنية، فإذا بالكتاب يقتحم أفكارى مرتين متتاليتين؛ المرة الأولى حين وقعت عيناى على خبر استخدام الحذاء فى قصف منصة القضاء المصرى، أما الثانية فحين قرأت عن اعتراض أئمة المساجد على الامتحانات التى خضعوا لها بدعوى تحديد مستواهم العلمى، والوقوف على مدى صلاحيتهم للخطابة فى الناس.

الغريب فى الأمر أن الخبرين استدعيا إلى ذهنى حكايةً واحدةً مِن الكلام الفارغ الذى سطره أحمد رجب وعنوانها «سايكو»، ولا يخفى على قارئ ما للعنوان ذاته مِن دلالة. تتحدث الحكايةُ باختصار عن أسئلة غير منطقية، اشتكى منها الطلاب المتقدمون لاجتياز امتحان القبول بأكاديمية الفنون فى حينها وتسببت فى رسوب أغلبهم، وكانت هذه الأسئلة جزءًا من اختبارات السيكولوجى.

***

ما العلاقة بين هذا وذاك وما يربط الأئمة بالحذاء الطائر باختبارات القبول الفنية؟

العلاقة غاية فى البساطة؛ فمؤلف الكتاب الذى توفى منذ أعوام مضت، سرد ساخرًا فى حكايته نماذجَ للأسئلة التعجيزية العجيبة التى صادفها الطلاب، والتى تبدو الآن مُماثلة لما صادف الأئمة الشاكون ومنها: مَطلوب ذِكر خمس وعشرين فائدة للعينين خلاف النظر، مطلوب ذِكر عشرة استعمالات لإبرة وابور الجاز غير التسليك. يستطرد الكاتب ساخرًا أن الطالب الذى لا يحمل بذرة الإبداع والابتكار لن يعرف الردّ المناسب، بينما الطالب المُبدِع سوف يجيب فى سلاسة؛ والإجابة قد تكون مثلا أن إبرة الوابور تصلح لعملية خدش طلاء السيارات فى الشوارع والكتابة عليها ولحفر القلوب على جذوع الأشجار تصريحًا بعلاقة حب!

***

خطر لى على المنوال ذاته أن هناك استعمالات متنوعة للحذاء، لا علاقة لها بحماية الأقدام وتسهيل حركة المشى أو الجرى. على سبيل المثال يُستَخدَم الحذاء لفظيًا لإعلان الاستهانة أو الخضوع وأحيانًا لإبراز القوة. الاستهانة حين يعلن المرءُ أن الأمر الفلانى هو «على الجزمة» بمعنى أنه لا يعنيه فى شىء وأنه لا يأبه له. والقوة حين يصرح المرءُ بأن فلان الفلانى «أدهسه بجزمتى» بمعنى أنه قادر على إيذائه بل وسحقه. والخضوع حين يرجو المرء آخر قائلا له «أبوس جزمتك» وهو تعبير يحمل التوسُّل والتسوُّل فى آن.

أتصور أيضًا أن ثمّة استعمالات مادية للحذاء ــ ليس من بينها الارتداء فى الأقدام ــ قد راجت خلال السنوات الأخيرة. منذ أيام استخدم الشاب المصرى عمّار الشحات حذاءه لإعلان موقفه مِن المحكمة التى يمثل أمامها. طلب القاضى إخراجه مِن القفص فخرج وأطلق كلماته ثم حذاءه باتجاه المنصة. لم يقتصر الموقف على تعبيره عن الغضب وإبداء الاعتراض حاد اللهجة، بل تجاوز الأمرين إلى إعلان صريح عن رفض الظلم وازدراء مَن رآهم الشاب فى خانة الظالمين، والشاب كما بدا من هيئته مُنتم إلى تيار دينيّ وهو يحاكم فى قضية معروفة إعلاميًا باسم أنصار الشريعة، متهمًا بلائحة طويلة لا يُعرَف الصحيحُ منها مِن الباطل والمُلَفَّق.

على كل حال ذكرت وسائل الإعلام أن الحرس نجح فى صدّ الحذاء وحماية القضاة، وربما يُعزى السَبقُ فى هذا الاستخدام المبتكر إلى مُنتظِر الزيدي؛ الشاب العراقى الذى قذف الرئيس الأمريكى بوش بفردتى حذائه فى مؤتمر صحفى، جزاءً على ما فعل بالعراق. اختار مُنتظِر أن يعلن وِجهَة نظرة فى السياسة الأمريكية تجاه بلده بقذيفة مُسالمة غير مألوفة. أبدى بوش فى الُمقابِل مرونة وسرعة استجابة هائلتين فانحنى يتفادى الفردة الأولى ثم نجح فى تفادى الثانية، حتى تمكَّن الحراس مِن اعتقال الشاب والسيطرة عليه بعد أن أفاقوا مِن المفاجأة التى دهمتهم.

من بين استعمالات الحذاء المُستحدَثة أيضًا وضعه بأعلى الرأس كناية عن التبجيل والإجلال وفرط الاحترام والتقدير. الحذاء الموضوع على الرأس فى الآونة الأخيرة ليس تقليديًا، هو فى أغلب المرات بيادة، تضعها امرأة ما فوق حجابها، وتطوف بها مُعلِنة تأييدها للنظام الحاكم ومؤكدة فارق المراتب والدرجات؛ ما بينها كمواطنة عادية وما بين مواطنى المؤسسة العسكرية.

***

كلام فارغ؛ مُلخَّص الحال والأحوال، للحذاء منافع وفوائد قد لا ننتبه لها إلا حين وقوعها، ولإبرة وابور الجاز مثلها، ولأسئلة السيكولوجى واختبارات وزارة الأوقاف مثلهما وأكثر.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات