«بعد 1897 صاحب المدينة».. للفن وللحرية - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:28 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«بعد 1897 صاحب المدينة».. للفن وللحرية

نشر فى : السبت 22 أكتوبر 2022 - 7:55 م | آخر تحديث : السبت 22 أكتوبر 2022 - 7:55 م

أسوأ قراءة للروايات التى تستلهم حياة شخصية شهيرة أن يُنظر إليها على أنها مجموعة معلومات وأحداث تسرد مثل كتب التاريخ، بينما لا يستلهم الكاتب شخصية ما، شهيرة كانت أم مغمورة، إلا لأنها تحرّك فى داخله أشياء يريد التعبير عنها، وتجعله يطرح عبرها أسئلة مهمة، جديرة بالقلق وبالتأمل.
من هذه الزاوية المحورية، فإن نجاح رواية «بعد 1897 صاحب المدينة» لوجدى الكومى، والصادرة عن دار العين، ليس فى تلك المعلومات والأحداث التى عاصرها الفنان الفذ محمود سعيد، بطل الرواية، وزادُ النص من تلك التفاصيل كبير ووفير، ولكن النجاح فى توظيف وتشكيل هذه المعلومات فى بناء فنى مركّب، وفى إطار فكرة محورية مهمة، تجعل من حياة الرجل صراعًا فى سبيل الفن والحرية والتمرد، فكأن الرسم قد حرّر محمود سعيد، وكأنه بدوره قد حرر فن التصوير المصرى من التقليد، ومنحه شخصية ثرية ومتفردة.
سيرة سعيد إذن ليست مقصودة لذاتها، ولا هى مجرد بحث واستقصاء عن حياته الخاصة والعامة، وإلا كان يمكن الاكتفاء بكتابٍ توثيقى عنه، تزينه لوحاته العظيمة، ولكن الرواية كفن تفعل ما لا يفعله التاريخ، لأنها تعيد قراءة الشخصية من خلال ذات المؤلف، وعبر خياله أيضًا، وتعيد تشكيل الأحداث بعيون معاصرة بالضرورة، وهنا يبدو سعيد شخصية نموذجية، سواء من حيث طرح أسئلة الفن والحرية، أو من حيث حياة ممتلئة عاشها، أو من خلال ظروف عائلية حافلة، تجعل من العجيب أن يخرج فنان متحرر من قلب هذا المجتمع الأرستقراطى المغلق على شخصياته، والذى أجبر سعيد أن يكون دارسًا للحقوق، ووكيلًا للنيابة، وقاضيًا، حتى استقال من القضاء فى سن الخمسين.
لكن النص ليس عن سعيد فقط، وإنما أيضًا عن مدينة الإسكندرية، وعن مصر، أى أن طموح وجدى الكومى يتجاوز رسم بورتريه لصاحب المدينة، إلى رسم صورة للأحوال والأجواء السياسية والثقافية والفنية والاقتصادية التى مرت بها مصر، ليس فقط خلال 67 عامًا، هى عمر سعيد من الميلاد حتى الوفاة، ولكن خلال 113 عامًا، لأن السرد يستمر من خلال قصة إطارية، بطلها آخر تلاميذ وأصدقاء سعيد، الذى أودعه الفنان مذكرات بالفرنسية، وستصبح هذه المذكرات، ولوحات منسوخة لسعيد، موضوعًا للبحث والتحرى، وصولًا إلى العام 2010.
بذلك تتسع الرؤية كثيرًا، ويتم اختبار صورة الفن عبر عصور وطبقات متعددة، كما يتم أيضا اختبار سؤال الحرية، ثم يتحرك السرد فى الزمن لاستكمال عناصر اللوحة، ويتبادل الحكى الراوى العليم، وصوت سعيد فى مذكراته المترجمة من الفرنسية، وصوت حبيبته وعشيقته الفرنسية ستيفانى من خلال خطاباتها إليه، وقد تدخل أصوات أخرى، مثل صوت موديل رسمها سعيد، وصوت شاب حاول اغتيال محمد سعيد باشا، رئيس الوزراء، ووالد محمود سعيد.
ورغم هذا البناء المعقد والحر أيضًا، لا تفلت محاور الصراع، فمشكلة سعيد متعددة الأوجه: مشكلة فنية بحثًا عن أساتذة للدراسة، وبحثًا عن معنى وأسلوب خاص، ومشكلة عائلية، حيث يرفض الأب أن يكون ابنه مصورًا يرسم العاهرات، ومشكلة عاطفية، حيث يعيش محمود سعيد بين زوجته التقليدية «سميحة»، وعشيقته الرسامة المتحررة «ستيفانى»، ومشكلة سياسية حيث نرى طرق تعامل سعيد الحذرة مع السلطة، من فاروق إلى زمن عبدالناصر وكمال الدين حسين.
وكأنه كُتب على سعيد أن يبدع وسط التناقضات فى كل الأوقات، بل لعلها أيضًا تناقضات المدينة والوطن، وعندما تكتمل اللوحة المكتوبة، نكتشف أنه بينما يتحرر سعيد فنيا وعاطفيا، تتراجع المدينة مع مرور الزمن، وتبتعد عن الكوزموبوليتانية، بل ويبدو سعيد العجوز فى النهاية غريبًا عن مدينته الجميلة والملهمة.
وفى كل الحالات يُختبر سؤال الحرية ببراعة، بأن يختار سعيد ما يرسمه، وليس ما يفرض عليه، وبأن يرسم موديلاته البسيطات، وبأن يعود إلى حبيبته ستيفانى، وبأن يتدخل للإفراج عن زميله الفنان العظيم عبدالهادى الجزار، وبأن يتحرر نهائيًا من الوظيفة، بعد أن جمع لسنواتٍ بين باليتة الألوان ومنصة القاضى.
امتلاء المؤلف بحياة الفنان وتقنيات فن الرسم كان ضروريا لفهم تجربة سعيد، وللكشف عن سر وسحر لوحاته، ومعاناته فى خلقها، بل واختيار لوحات بعينها، وتوظيفها فى سياق النص، مثل لوحة بنات بحرى، ولوحة ذات الجدائل الذهبية.
كانت الدراسة ضرورية أيضًا لرصد علاقة سعيد بمختار، وبالسيرياليين المصريين، وفى الرواية آراء مدهشة موظفة بشكلٍ سردى ممتاز، فى قراءة لوحات سعيد لرمسيس يونان، ولكامل التلمسانى، كما أن من ألمع مناطق الرواية استلهام منهج رسم وسحر لوحة ذات الجدائل الذهبية لكتابة لوحة سيريالية عن ملهمة اللوحة، ليجد سعيد نفسه فى اختبار صعب بأن يمنح جسده لملهمته، وكأنها محاولة للعبور الطبقى والفنى، أو كأنها ترجمة مكتوبة لمنهج سعيد فى لوحاته، التى تجمع بين الخيالى والواقعى.
يمكن الحديث أيضًا عن وجود نقاط تحول أساسية فى حياة سعيد، مثل سفره إلى باريس، وإصابته بالتيفود، وموت والده، وعلاقته بعشيقته.
هذه الأحداث الخاصة تنسج بذكاء مع أحداث كبرى عالمية ومحلية، من الحرب العالمية الأولى وثورة 1919، إلى الحرب العالمية الثانية، وانقلاب الضباط الأحرار، وحرب 1956.
يبدو ثراء سعيد جزءًا من ثراء زمنه، ويبدو انزواء الرجل فى النهاية، جزءًا من أفول عصر، ومدينة دكتها القنابل فى الحروب، وتطاردها أصوات التعصب والانغلاق، وتصبح لوحاتها الأصلية «فالصو» ومزورة.
ربما لم يستفد النص كثيرًا بمذكرات سعيد، وربما كان يكفى الروايةَ عنوانٌ مختصر بليغ هو «صاحب المدينة»، كما كان من الأفضل ألا يتكرر تاريخ 1897 كعنوان قبل الفصول، وربما كان الصراع باهتًا داخل سعيد عندما ترك ستيفانى، وعندما تركته، وربما جاءت فصول احتلال الإسكندرية أطول مما يجب.
ولكن الرواية ظلت عمومًا متماسكة ومؤثرة، تشهد على موهبة وطموح بطلها، مثلما تشهد على موهبة وطموح مؤلفها.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات