النقد والجمهور والمصطلح المراوغ - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 12:01 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

النقد والجمهور والمصطلح المراوغ

نشر فى : السبت 23 أبريل 2022 - 7:35 م | آخر تحديث : السبت 23 أبريل 2022 - 7:35 م

ليس هناك ما هو أكثر تضليلا من مصطلح «الجمهور» بالألف واللام، الذى يتورط البعض فى إطلاقه، فيحدِثونك عن كتلةٍ ضخمة متجانسة ومتماسكة وشاملة، فى حين أن الواقع يقول بعكس ذلك، فالبشر مختلفون، وهناك جماهير متعددة، يقدمون استجاباتٍ مختلفة، ويتعاملون بشكلٍ متباين مع الفن والأدب.
الجمهور ــ على حدِ وصف شارلى شابلن ــ مثل وحش له ألف رأس، لذلك يجب أن نفكك هذا الوحش إلى فئاتٍ وأنواع، بل يبدو لى أن الفرد نفسه يعبر أحيانا عن فكرة تعدد أنواع الجمهور، فقد تفضل أن تسمع أغنية خفيفة فى الصباح، وأغنية لأم كلثوم فى المساء، وقد لا تسمع شيئا طوال اليوم، إذا لم يكن مزاجك يسمح بذلك، أنت نفسك متعدد المطالب والتفضيلات.
«مطالب واحتياجات»، هذه هى الكلمات التى أستريح إليها فى علاقة الجماهير بالفن والأدب، فإذا كان مطلب الناقد جماليا بالأساس، لأنه مهتم بالطريقة التى تحولت بها المادة إلى عملٍ فنى، ومهتم بدور أدوات الفن ولغته فى توصيل المعنى أو الفكرة، ولأنه مشغول بالمقارنة، وبعلاقة ما قيل، بالطريقة التى قيل بها، عن طريق التحليل والتفكيك والتركيب، وفق منهج وزاوية للرؤية.
فإن المشاهد والقارئ العادى تحركه مطالب أخرى، شديدة التنوع والتعقيد، دون أن يعنى ذلك أنه لا يشعر بالجانب الجمالى للعمل، فكل إنسان لديه جهاز استقبال للجمال، يفترض أن تصقله خبرة المشاهدة أو القراءة، ومن هنا تختلف حظوظ الجماهير المتعددة، من درجة وعمق استقبال الجمال، وتختلف مستويات التلقى، وإن كان من النادر أن تنعدم نهائيا، إلا لو كنا أمام فقدان من الأصل لحاسة معينة، كالنظر أو الشم أو السمع.
المطالب التى أتحدث عنها أقرب فى مفهومها إلى مصطلح «المنفعة» بالمفهوم الاقتصادى، أى أن المشاهدة والقراءة تحقِق «إشباعا ما» لصاحبها، المطلب الجمالى يحقق أيضا منفعة وإشباعا لصاحبه، ولكن الناس قد تشاهد أو تقرأ لمجرد الضحك، أو التسلية، أو تضييع الوقت، أو تخفيف الألم، لدينا تقريبا مطالب بعدد البشر وأحوالهم.
هذا هو بحر الفن أو الأدب: هناك من يقنع بالنظر إلى البحر، وهناك من يتنزه فيه بقارب، وهناك من يصطاد منه، وهناك من يعوم فيه، وهناك من يغوص فى داخله... إلخ.
اختلاف المطالب يفسر تلك المسافة فى التقييم بين الناقد والجماهير، على الناقد أن يتفهم ذلك، لأنه تعبير عن تنوع الاستجابات للفن أو الأدب، ودون أن نستنتج دائما، أن وجود مطلب آخر، يعنى بالضرورة، عدم إدراك المتفرج أو القارئ لمستوى العمل الجمالى.
خبرتى مع جمهور السينما بالتحديد تثبت أن الكثيرين يدركون الفارق بين إشباع الفيلم لحاجة لديهم، وبين مستواه، فكم من مرة سمعت متفرجا يقول إن الفيلم أضحكه، ولكنه فيلم ضعيف، وقد يستخدم أحيانا كلمات يمكن أن تترجم ببساطة إلى مصطلحات نقدية، كأن يقول: «الفيلم ما فيهوش قصة»، أو «الصورة مضلمة مع إنه فرح»، أو«النهاية مش مقنعة».
هذه أحكام جمالية تحتاج فقط إلى ضبطٍ، هو كمتفرج يعلم أن الفيلم قد جعله يرى مطربه أو ممثله المفضل، أو أنقذه من الهم بالضحك والهزار، ولكنه لا يمانع لو كانت عناصر الفيلم أفضل حالا، يمكنه أن يقنع الآن بالإشباع بهذا القدر المتواضع، لكنه سيستمتع أكثر بمشاهدة فيلم أفضل، لنفس النجم، أو بنفس القدر من الضحكات.
أغرب موقف شاهدته يؤكد فكرة تعدد الاحتياجات، هو ذلك المتفرج الذى قال لى ذات صيف إنه لم يدخل قاعة العرض أصلا ليشاهد الفيلم الردىء، ولكنه دخل طلبا للتمتع ــ فى حفلة الظهيرة ــ بهواء التكييف، لأن لدية موعدا مع صديق فى السادسة مساء!
هذا مطلب غريب للغاية، ولكن تذكرة هذا المتفرج جعلته مجرد رقم، ولا تقول سوى أنه من «الجمهور» الذى أقبل على فيلم ردىء!
لا أحد يتوقف ليعرف من هو الجمهور؟ لا أحد أصلا مهتم بالاعتراف بأن جمهور فيلم ما مستمر فى الزمان والمكان ما بقى الفيلم نفسه:
جمهور «باب الحديد» هو كل مشاهد للفيلم أمس واليوم وغدا، هم طلبة المدارس «المزوَغين» الذين ثاروا على الفيلم فى سينما ميامى وقت العرض الأول عام 1958، وهم أيضا الآلاف الذين شاهدوا الفيلم فى التليفزيون عند عرضه، وهم كذلك كل المشاهدين القادمين فى المستقبل للفيلم، فى كل وقتٍ ومكان.
حكيت كثيرا عن واقعةٍ حدثت لى، كانوا يصورون مشهدا فى وسط البلد من فيلم «عمارة يعقوبيان»، المشهد حُذف فيما بعد فى المونتاج، وكان يتلخص فى قيام مرشح لمجلس الشعب رمزه السلم يلعب دوره نور الشريف، بتوزيع اللحوم على الفقراء، انتبهت فجأة إلى صوت شخص بسيط الهيئة ينبهنى قائلا: «شوف يافطة المرشح.. عليها رمز السلم.. يعنى راجل وصولى».
أذهلنى تعبير الرجل، الذى لم يتفرج فحسب، ولكنه قرأ المشهد ودلالالته، هذا الرجل لديه جهاز استقبال يقظ، على أمثال هؤلاء كان يراهن صلاح أبوسيف فى مجازاته وتشبيهاته البصرية، كان يعرف تماما أن المصراوية سيترجمون ما تعنيه القرون فوق رأس محجوب عبدالدايم!
على الناقد أن يواصل بحماس منهجه الجمالى، وعليه فى الوقت نفسه أن يتفهم تنوع الجماهير فى إشباع حاجاتٍ مختلفة أخرى.
المرأة التى قالت لمحمد سعد بعد مشاهدة فيلم «اللمبى»: «ربنا يسعدك.. خلتنى أعرف أكمل حياتى»، تستحق التفهم، جاءت مكتئبة فخرجت سعيدة، هذا مطلبها الراهن من السينما، الذى لا يقلِل بالمقابل من مطلب الناقد الجمالى، عندما يحلل عناصر الفيلم، وموقعه من خريطة الكوميديا... إلخ.
لا أرى تناقضا إذا اتسع الأفق، وإذا تذكرنا عبارة جان بول سارتر الملهمة:
«الإبداع محصلة ثلاث حريات: حرية الفنان، وحرية الجمهور، وحرية الناقد».
لا سلطة لطرف على الآخر، إلا سلطة الرأى والإقناع.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات