اللغة والعلم يجتمعان: العالم الكبير أبو شادي الروبي - محمد زهران - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:10 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اللغة والعلم يجتمعان: العالم الكبير أبو شادي الروبي

نشر فى : السبت 23 سبتمبر 2017 - 11:20 م | آخر تحديث : السبت 23 سبتمبر 2017 - 11:20 م

 

قد تحصل على شهادة علمية رفيعة مثل الدكتوراه ولكن هذا يعني أنك متخصص في جزء صغير من علو معين، قد تصعد درجة عن ذلك وتنمي ثقافتك العلمية فتتعرف على إتصال العلوم ببعضها وفلسفة العلوم وتاريخها وقد تصعد درجات وتصبح مثقف موسوعي عندما تنهل من الأدب والفن مثلما نهلت من نهر العلم وشخصيتنا اليوم من هذا النوع الأخير: العالم الكبير الدكتور أبو شادي الروبي...



ولد في الخامس من مارس سنة 1925 في حي القلعة  وقد سمي أبي شادي تيمنا باسم خاله الدكتور أحمد زكي أبو شادي الأديب (أحد مؤسسي مدرسة أبولو الشعرية) والطبيب أيضاً (وكان عميداً لكية طب جامعة عين شمس) والدكتور الروبي إبن وحيد تكبره ثلاثة شقيقات وجده محمد أبو شادي محامي قد رافق سعد زغلول في حياته السياسية ... إذن حي القلعة بعبقه التاريخي وعائلته بثقافتها المتنوعة بين العلم والأدب والسياسة قد ساهموا في تشكيل عالمنا الفذ.

 

إلتحق بمدرسة الحلمية الإبتدائية ثم الثانوية ثم إنتقل إلي مدرسة بمبقادن الثانوية وكان من المتوفوقين حيث كان خامس القطر المصري في التوجيهية (الثانوية العامة الآن) سنة 1941 ... ونريد أن نتوقف لحظة في هذه الفترة المدرسية لما كان فيها من إرهاصات لما هو قادم.

في الدراسة المدرسية حصل على جائزة الثقافة العامة للغة الإنجليزية (كانت تسمى جائز مايلز لامبسون) وجائزة الأدب التوجيهي في اللغة العربية وكانت مسابقة موجهة لطلبة التوجيهية وكانت في قراءة عشرة كتب منها: "أهل الكهف" لتوفيق الحكيم و"الأيام" لطه حسين و"تحرير المرأة" لقاسم أمين و"فيض الخاطر" لأحمد أمين و"المنتخبات" للطفي السيد و"وحي الرسالة" لأحمد حسن الزيات وغيرها (سؤال لطلابنا في المرحلة الثانوية الآن: كم قرأتم من هذه الكتب؟ أم أنكم مشغولين بالحفظ والدروس الخصوصية؟ ... أم أوجه هذا السؤال لأهالي الطلاب؟) وقد إمتحنه في هذه الكتب العملاقان طه حسين وعلي الجارم!

 

لنرى الآن المرحلة الجامعة وما فيها من رحلة فذة لطلب العلم فقد إلتحق بكلية العلوم بجامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن) ونال درجة البكالوريوس في الأحياء والكيمياء سنة 1946، ثم إلتحق بكلية الطب وتخرج فيها سنة 1950 ببكالوريوس في الطب والجراحة، لم يكتف بذلك بل حصل على دبلوم طب المناطق الحارة سنة 1952 يليه دبلوم الأمراض الباطنة سنة 1953 وتوج ذلك كله بالحصول على دكتوراه في طب المناطق الحارة سنة 1955!!

هنا أريد أن أتوقف لحظة لأتكلم عن الشهادات العلمية، من الناس من يحب أن يجمع عدة شهادات علمية لأنها تساعده على العمل بوظيفة مرموقة ومنهم من يحصل عليها من باب الوجاهة الإجتماعية ولتعليقها على الحائط ... عالمنا الكبير لم يكن من هذا النوع بل كان عالماً حقاً وكل شهادة حصل عليها كانت تضع لبنة في بناء علمي شامخ سيكون له أثره الكبير لاحقاً كما سنرى ...

 

عين مدرساً بكلية الطب سنة 1956 ثم مضى في طريقه الأكاديمي بخطى ثابته لأستاذ مساعد ثم أستاذ ولم ينس نصيبه من الإدارة فأصبح رئيساً لقسم الأمراض المتوطنة ثم رئيساً لمجلس أقسام الباطنة في كلية الطب جامعة القاهرة ثم أستاذاً متفرغاً منذ سنة 1986.

 

طلب العلم مدى الحياة من شيم العلماء الحقيقيين وليس من يريدون "الدال نقطة" وكفى أو "مش خدت الشهادة إكسب فلوس بقى"! لذلك نرى الدكتور الروبي قد سافر لبريطانيا في 1959 و 1960 (أى بعد حصولة على الدكتوراه فالمسألة ليست مسألة شهادات) لدراسة أمراض الجهاز الهضمي ثم درس النظائر المشعة سنة 1964 في مصر ثم سافر لطوكيو لدراسة مناظير الألياف الزجاجية سنة 1969 والوسائل الحديثة في تشخيص وعلاج أمراض الجهاز الهضمي في بريستول سنة1974 والمناهج الفعالة في التعليم العالي بإكسترا سنة 1983 وكان قرب سن المعاش أي أنه كان يطلب العلم لذاته وليس من أجل ترقية ناهيك عن العدد الكبير من المؤتمرات العلمية التي شارك فيها وليس أدل على عمله الدؤوب من الأبحاث الثمانين التي نشرها في حياته ونحن نعلم أن النشر في تلك الأيام كان أبطأ وأصعب من أيامنا هذه وأيضا إذا كنت تقطن في دولة نامية فقلة الإمكانيات تجعل البحث العلمي صعباً خاصة في عدم وجود وسائل الإتصال التي نحظي بها اليوم ومع ذلك: 80 بحثاً!!

 

تحدثنا سابقاً عن أهمية توصيل العلم للعامة وعن أهمية معرفة تاريخ العلوم وللدكتور الروبي في هذا المضمار فضل كبير  فقد ألف عدداً من الكتب في تاريخ العلوم الطبية مثل "الموجز في تاريخ الطب والصيدلة عند العرب" و"محاضرات في تاريخ الطب العربي" بالإضافة إلى إشتراكه في الموسوعة الكبيرة "موسوعة الحركة العلمية في مصر" (الصادرة عن أكاديمية البحث العلمي) حيث كتب مع آخرين عن تاريخ الحركة الطبية في مصر، من الطرائف هنا أنه من فرط إهتمام الدكتور الروبي بتاريخ الطب فإن قيل عنه أنه يكاد يحفظ كتاب "القانون" في الطب لإبن سينا عن ظهر قلب هذا بالإضافة إلى عشرات المقالات عن تاريخ الطب في مصر والعالم العربي والإسلامي بل إنه درس تاريخ الطب للطلبة في الجامعة (درسه في جامعات القاهرة وأسيوط وقناة السويس) لسنوات عدة وهذا شئ لو تعلمون عظيم، معرفة تاريخ أي علم مهم جداً لتطوره فتدريس أي علم للطلبة عن طريق إعطائهم سيل من المعلومات الجافة بدون معرفة كيفية وصول العلماء لهذه المعلومة وماهي أهمية هذه المعلومة في الصورة الكبرى للعلم لا يعتبر تدريساً من الأساس ولكن مجرد سرد وتحفيظ وبهذا تتدهور الثقافة العلمية... للدكتور أيضاً كتباً في الطب مثل كتاب عن طب المناطق الحارة وكتاب عن الكبد والمرارة والبنكرياس... والقائمة تطول!  

 

كل ما سبق كان عن الإنجازات العلمية والنظرية فماذا عن الإنجازات المادية؟ أنشأ الدكتور الروبي وحدة مناظير وفحوص الجهاز الهضمي والكبد بمستشفى القصر العيني وقد تتلمذ فيها مئات الطلاب وعولج فيها آلاف المرضى وقد تعهدها عالمنا العظيم بالتطوير والإدارة وكما قال الدكتور محمود حافظ في حفل تأبين الدكتور الروبي بمجمع اللغة العربية أن الدكتور الروبي هو أول من أدخل مناظير الجهاز الهضمي مصر وأول من إشترى منظاراً للجامعة على نفقته الخاصة.

 

لن ننسى للدكتور الروبي مساهمته في إنشاء لجنة الثقافة العلمية في المجلس الأعلى للثقافة أيضاً ...

 

هذا العالم الموسوعي الكبير كان مهتماً بالفن والفلسفة والأدب بالإضافة إلى لغته الرفيعة، كل هذا جعله عضواً في مجمع اللغة العربية وكان إضافة قيمة جداً لهذا المجمع، وكاد شغفه بالأدب ولغته الرفيعة أن يجعلاه يترك دراسة الطب (فيما بعد) ويتجه للصحافة كما قال هو بنفسه، وقد عمل محرراً بالقطعة في دار أخبار اليوم عندما كان طالباً حتى أن كامل الشناوي طلب من أن يترك الطب ويتفرغ للأدب والصحاقة ... لنرى ماذا يقول الدكتور الروبي عن إهتماماته المتعددة: "وهكذا عشت أيامي وليالي موزع الولاء والعشق بين الإثنين (الطب والأدب) وشيئاً فشيئاً تعددت المعشوقات، تطرق الأدب إلى الفن وتطلع العلم إلى الفلسفة واليوم تأتي اللغة وعاء كل فكر ومفتاح كل قول تطالبه هى الأخرى بنصيبها" (كان هذا جزءاً من كلمته يوم استقباله عضواً بمجمع اللغة العربية)... لن ننسى هنا ولعة الشديد بالموسيقى فقد إلتحق بمعد للموسيقى وهو طالب صغير وتعلم العزف على الكمان وقد برع فيه وكانت أولى مقالاته بالصحافة عندما كان طالباً عن الموسيقار الروسي العظيم  " بيتر إليتش تشايكوفسكي" وقد قيل أن الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب قد قال عند قراءته لهذا المقال أن أحس أنه يستمع إلى لحن موسيقي جميل!

 

وكعادتنا في الحديث عن العلماء الكبار نتكلم عن الجوائز التي حصلوا عليها في النهاية لأنها تـأتي في ذيل قائمة إنجازاتهم فهذه الجوائز تشرف بهم وليس العكس، وعل كل فقد حصل الدكتور الروبي على عدة جوائز منها (على سبيل المثال لا الحصر) وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى سنة 1985 وجائزة الدولة التقديرية في العلوم الطبية سنة 1993 وكان عضواً في مؤسسات وهيئات علمية وأدبية كثيرة لن نذكرها هنا لطول القائمة!

عندما أتطلع إلى هذه القامات الشامخة في المجال العلمي في تاريخ مصر الحديث وما حققوه رغم أن مصر تواجه ظروفاً صعبة منذ عشرات السنين من إحتلال وحروب ..إلخ أشعر بالإنبهار لأن مع التقدم التكنولوجي في عصرنا الحالي وسهولة الحصول على المعلومات وسهولة التنقل لم ننجز ما أنجزوه وأنا أتكلم هنا عن ما نقدمه لبلادنا وليس فقط الأبحاث العلمية ... ولكني أشترك مع الدكتور الروبي في شئ، تروي شقيقته السيدة زينب الروبي في حفل تأبينه بمجمع الخالدين أن الدكتور عندما سافر إلى أمريكا عاد بثلاث حقائب مليئة بالكتب وقد إكتظت شقته بالكتب حتى إضطر إلى استئجار شقة أخرى لهذه الكتب، أنا عندما أسافر أشتري الكثير من الكتب وقد إكتظ بها البيت فأصبحت أوزعها بين البيت في مصر والبيت في أمريكا وآخذ بعضها من هنا لهناك وبالعكس! إلى هنا ينتهي التشابه وأعود إلى موقعي كتلميذ يتطلع لعالم كبير.   

 

رحم الله الدكتور شادي عبد الحفيظ الروبي الذي رحل عن عالمنا سنة 1997.





محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك فى تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه فى نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.. له اهتمامات عديدة بتاريخ وفلسفة العلوم ويرى أنها من دعائم البحث العلمى، يستمتع جداً بوجوده وسط طلابه فى قاعات المحاضرات ومعامل الأبحاث والمؤتمرات، أمله أن يرى الثقافة والمعرفة من أساسيات الحياة فى مصر.
التعليقات