ــ 1 ــ
«... وكانت الوصية الذهبية: لا تسخر من أحدٍ يحادث شجرة، أو رسم قلبًا على جذعها، أو ارتمى باكيا فى حضنها. ذلك أن الشجرة نفسها لن تسامحك..».
(مأثور شعبى)
على مدى ثلاثة أيام بإمارة الشارقة، عُقدت فعاليات الدورة الثالثة والعشرين (18 ــ 20 سبتمبر 2023) من ملتقى الراوى الدولى الذى صار أهم ملتقى عربى ودولى دون منازع يعقد سنويًّا بدولة الإمارات العربية المتحدة، على شرف الحكاية الشعبية، والمأثور الشعبى، والتراث الثقافى عمومًا.
وجاءت هذه الدورة المميزة فى محبة الحكاية الشعبية، والمأثور الشفاهى والمدون حول النباتات واللون الأخضر، وحيث الاحتفاء بالمساحات الخلابة التى تمزج بين التراث الأصيل، وجمال الطبيعة الحية، وعناصر الثقافة، مُشَكِّلةً بيئة ثقافية محلية وعربية ودولية. وجاء شعار هذه الدورة ملخصا لموضوعها بعنوان «حكايات النباتات».
ــ 2 ــ
ما يزيد على مائة وعشرين فنانا وحكاء ومؤديا وباحثا ومتخصصا فى التراث والثقافة الشعبية جاءوا من مختلف دول العالم، التقوا وتباحثوا وتناقشوا وألقوا خلاصة أوراقهم العلمية المعتبرة حول موضوع «حكايات النباتات فى التراث» وهو موضوع جميل وجديد وربما لم يلتفت إليه بهذه الطريقة من قبل.
ففضلًا على محورية النبات ككائن حى فى فضاء الحياة والوجود، والدور الذى يلعبه النبات بوصفه عنصرا مركزيا من عناصر الطبيعة المحيطة بالإنسان، لا يستغنى عنها ولا يعيش بدونها، ولا تكتمل خبراته ومعارفه ولا ثقافاته ولا إبداعه بدون حضور النبات بتنويعاته اللا نهائية وعوالمه وممالكه فى بيئات الطبيعة المختلفة (البرية والصحراوية والزراعية والبحرية.. إلخ)؛ ورمزية اللون الأخضر (اليخضور) رمز النماء والتجدد والحياة والخصب والتكاثر والنمو والاستمرار، إنها الحياة بكل ما فيها من تنوع وتعدد واختلاف ورحابة، والأمل والمستقبل والبحث عن الخير والعطاء وسلام هذا الكوكب وكائناته.
ــ 3 ــ
ولأول مرة تحظى نباتات وزروع باهتمام وفير من الباحثين فى كل أنحاء العالم من أقصى شرق وأواسط آسيا وحتى المكسيك ودول أمريكا اللاتينية، ومن أوروبا وأفريقيا مرورا بالعالم العربى من محيطه إلى خليجه، ودارت النقاشات واغتنت المعارف والخبرات بأحاديث مطولة حول الأشجار والنخيل والأعشاب وما تميزت به كل ثقافة من احتفاء بنوع معين من النبات أو الأشجار أو الزروع.
نسمع الحكايات الجميلة عن شجرة الغاف المعمرة فى الخليج، ونسمع الأمثال التى ضربت حول أشجار الزيتون فى تونس ورمزيتها ودلالاتها الشعبية المتنوعة، وسنعرف ما تمثله أشجار الصنوبر الهائلة وغاباتها فى أواسط آسيا من قيمة وما لعبته من دور فى المخيلة الشعبية هناك التى أنتجت أكبر وأضخم وأطول الملاحم الشعبية هناك وهى الملحمة الشعبية المعروفة باسم «ماناس».
ــ 4 ــ
عالم كامل من السحر والمتعة والخيال، والبحث والاكتشاف والتنقيب فى تراثنا الزاخر، وقد شرفت بإلقاء ورقة بحثية بعنوان بعنوان «مصادر مأثور النبات فى التراث العربى المدون»، كما تشرفت برئاسة جلسة علمية بعنوان «حكايات النباتات فى التراث الشعبى»، شارك فيها باحثون وباحثات من مصر واليمن وتونس وفلسطين.
وفى الورقة التى تشرفت بإلقائها فى الملتقى حاولت تركيز الضوء على المؤلفات التراثية الخاصة التى وصلتنا فى دائرة فنون البيزرة والبيطرة والصيدلة والنباتات والعقاقير والأعشاب، واحتوت على مادة تراثية هائلة وثروة فولكلورية من المعتقدات والمعارف والتصورات الشعبية وما أنتجته المخيلة العربية من إبداعات تتمحور حول النبات، أساطير وحكايات ومرويات.. إلخ.
ومن يراجع فهارس الكتب العربية الجامعة (مثل كتاب «الفهرست» لابن النديم، أو «كشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون» لحاجى خليفة) سيجد عشرات الكتب والعناوين التى جمعت مادة هائلة وخصبة ووفيرة فى هذه الدائرة التى لم يسبق الالتفات إليها والاهتمام بها بمثل هذا التنوع وهذه الغزارة.
فما أكثر المؤلفات، فى النوعين، الطب العلمى، والطب البدوى الشعبى، والتى تتناول الأمراض، والأدوية، والعقاقير والأغذية، ويمكن أن يفيد منها أعظم الفائدة المعنيون بدراسة فولكلور الطب الشعبى، وطرائق التداوى بالأعشاب والنباتات والزرع، كما يفيد منها أيضًا المعنيون بدراسة المعتقدات والعادات الشعبية كالإصابة بالعين، والتفسير الغيبى للأوبئة والطواعين التى تجتاح بعض المناطق دون غيرها.
ــ 5 ــ
وكما صار من عادة الملتقى سنويًّا، إصدار مجموعة غاية التميز من الكتب والدراسات المتخصصة فى المأثور الشعبى حول النبات، صاحب جلسات الملتقى العلمية توقيع ما يقرب من الثلاثين كتابا أو يزيد، كلها تدور حول «النبات» وحضوره فى المخيال الشعبى، والقصص الشعبى، والحكايات الشعبية، وتناولات منهجية وبحثية وتصنيفية من منظوراتٍ متعددة ومتباينة تعالج أدبيات النباتات والزروع والأشجار فى التراث الشعبى، من أمثال وحكم ومرويات وسير وملاحم وأغانٍ وأناشيد، وحضور متجدد فى الثقافة اليومية والمعارف الشعبية.. إلخ.
ولأن المساحة لا تفى بعرض الكتب كلها، لكن يمكن الإشارة سريعا إلى بعضها لأهميتها العلمية والثقافية أولًا، ولمعالجتها جانب أو أكثر من موضوعة «النبات» فى التراث ثانيًا.
من هذه الكتب، كتاب الأستاذ القدير الدكتور سعيد يقطين من المغرب بعنوان «النبات فى التراث العربى ـ السيرة الشعبية نموذجًا»، وكتاب الشاعر والراوى والباحث القدير الدكتور عبدالعزيز المسلم من الإمارات «الخَضَر ـ النباتات فى المخيال الشعبى الإماراتى»، وهو مدخل توثيقى ممتاز لحضور النبات فى التراث الشعبى الإماراتى، مصحوب بلوحات فنية غاية فى الجمال والإبداع، وكتاب الدكتور محمد الجويلى من تونس بعنوان «النبات فى الحكاية الشعبية العربية»، وكتاب الدكتور مصطفى جاد من مصر بعنوان «النبات فى التراث الشعبى العربى»، وكتاب الدكتور أحمد بهى الدين من مصر بعنوان «غرس المعرفة ونبت الإبداع ـ حكايات من مصر القديمة»، وغيرها من الكتب والدراسات الرائعة وكلها يستحق حديثا مفصلا فى مقالاتٍ أخرى... (وللحديث بقية).