عن التنمر فى حارة الحرافيش - داليا سعودي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:57 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن التنمر فى حارة الحرافيش

نشر فى : الثلاثاء 25 سبتمبر 2018 - 9:30 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 25 سبتمبر 2018 - 9:30 ص

للوهلة الأولى، هالنى كغيرى حجمُ الهجوم الذى تعرض له أحد النجوم الجادين على وسائل التواصل الاجتماعى لأنه نشر صورة زوجته الفنانة فى أبهى حُللها. للوهلة الأولى، هالنى، ودق فى رأسى ناقوس الخطر، لأنه كان من العنف والضراوة والعداوة بحيث أبرز عمق الفجوة التى باتت تعكس الجفوة بين الناس والفنانين. ليس كل الناس بالطبع، ولا كل الفنانين. لكن التنمر المنتشر على الشبكة العنكبوتية فى هذه الحالة وفى غيرها بدا شرسا وعشوائيا وعلى استعداد لنصب المقصلة لأول تعساء الحظ من العابرين. والمفارقة هى أن الظاهرة تستهدف بوضوح فئة الفنانين، التى كان من المفترض أنها الفئة المعبرة عن أحلام وأشواق الجماهير. فما الذى حدث؟
***
مرحبا بك فى عالم الـ«سوشيال ميديا»، حيث الأقلية النادرة فقط هى من تعلن عن هويتها، فيما تتخفى الملايينُ المتبقيةُ وراء اسم مستعار وصورة شخصية وهمية. الغالبية العظمى هنا تنطق من وراء قناع، وتستمد قوتها من سلطة التخفى، وتُنَصِب نفسَها سلطة عليا فوق كل السلطات التى فَرضت عليها فى عالم الواقع حالة من الفقر والقمع والهزيمة. هنا، فى العالم الافتراضى، تقوم مملكة ملح الأرض، ورمال الصحراء، وجحافل الصامتين ممن منحتهم عصا الرقمنة السحرية صوتا، وسوطا، وأرضا واسعة تتساوى فيها الرءوس، وتُنْصَب فيها الموازين، وتنطلق فيها حريةٌ التعبير بعنف يوازى غيابها فى عالم الحقيقة. هنا، فى العالم الافتراضى، تمتدُ حارة الحرافيش، بعششها العشوائية، ودكاكينها الصغيرة المتجاورة، ومعاركها الصاخبة الأزلية، كما وصفتها مخيلة عميد الرواية نجيب محفوظ.
***
وفى حارة الحرافيش، ذات صباح سبتمبرى، بعد أن دشن فى العشيةِ أهلُ الفن مهرجانهم السياحى الفاخر فى المدينة الساحلية الخلابة، خرج ابن الحارة الفنان بعد أن شرب الشاى بالنعناع، ليلصق على بوابة دكانه صورة كبيرة لزوجته نوارة المهرجان، إعلانا عن حبه لها واعتزازا بمكانتها الآسرة. فإذا بالحارة تقوم عن بكرة أبيها بمحاصرة الدكان، وقذفه بالطوب والطماطم والبيض الفاسد، وتهديده بالنبايبت والمشاعل، مؤذنة بالويل والثبور وعظائم الأمور! فما كان من الفتى السفروت إلا أن غاب بداخل دكانه للحظات، وخرج متحديا الحناجر النافرة، والعصى المُشَهَرة، ليلصق على بوابته صورة أخرى لحبيبة الفؤاد. صورةٌ كانت أكبر من الأولى، ولا تقل فيها الجميلةُ وضاءة وانشراحا. وهكذا حتى حل المساء، تعالت الصيحات المستنكرة وتمادت، معللة ثورتها الالكترونية العارمة بأن الفتى العاشق لا يصون البيضة فى خدرها، لأن الجميلة فى الصورة لا ترتدى الملاية اللف، ولا تضع على خدها الأسيل برقع الحياء!
***
وبمثل ما تبدو الفقرة السابقة فى مقالى هذا هزلية الطابع، خارجة عن سياق التحليل العلمى وأسلوبه الواجبِ حشمة ووقار، بدا لى المشهد خارجا عن سياق العلاقة المعتادة بين العامة والخاصة فى بلادنا. تلك العلاقة التى باتت تشى اليوم بفشل النخبة المثقفة فى الوصول إلى وجدان الشعب وعقله.
من اليسير أن نسعى لتفسير ظاهرة التنمر بالركون إلى تفسيرات دينية عقائدية محضة، فندعى مع المدعين استسهالا بأن الظاهرة نتاج عقود مما يحب البعض أن يسميه بـ«الغزو الوهابى» و«الحشد الإخوانى». لكننا لو اكتفينا بذلك نكون قد أعفينا النخبة المثقفة من مسئوليتها الجسيمة فى التخلى عن دورها إزاء الشعب، ونكون قد أعناها على غسل يديها من إثم الجرى طوال عقود وراء مصالحها الضيقة خدمة لسلطة أو غفلة عن حق.
كلا، لا ينبغى الركون إلى التفسير الدينى الأيديولوجى وحده فى ظاهرة التنمر التى تطال أول من تطال النخبة. إذ يحسنُ الالتفات إلى عوامل سوسيولوجية واقتصادية وسياسية أخرى، تفرض على المجتمع ضغوطا كبرى حتى وإن طفا على السطح صوتُ العُرف المحافظ، بعد أن وافقت حججه أهواءَ الناس الخفية الراغبة فى إعلان الرفض لواقعها المعيشى المرير.
لأجل ذلك لا مفر من طرح سؤال التنمية ونحن نلقى نظرة فاحصة على ظاهرة التنمر عبر وسائل «التواصل» الاجتماعى، لاسيما فى الوقائع التى يكون فيها أفراد النخبة هدفا لهذا التنمر، ومحطا لعنف الجماهير.
فعلى سبيل المثال، بينما ينتشر مقطع مصور يخاطب فيه وزير المالية المواطن قائلا: «أنت عايش على السلف»، وبينما تنتشر جرائمٌ لم نكن نسمع عنها من قبل، عن أب يقتل أبناءه وينتحر لضيق ذات اليد، وعن زوجين يسرقان زى المدرسة لطفلتهما لعدم قدرتهما على شرائه، تخرج علينا نخبة فناناتنا ليلة افتتاح مهرجان الجونة السينمائى للثرثرة عن إطلالاتهن التى تكلفت الآلاف! إن حقيبة «بيربرى» مثلا التى استعرضتها نجمة كبيرة بفرح شديد أمام الكاميرات فى لقائها مع المذيعة اللامعة سعرها يفوق تكاليف دراسة طفل طوال حياته المدرسية، ويتعامل معها البائع الواقف فى المحل العالمى كقطعة مجوهرات فلا يلمسها إلا وقد ارتدى قفازا مخمليا أبيض! ولو عكس ذلك أمرا فإنما هو يعكس انفصال الفنان عن مشاهديه، ونقص وعى النخبة بالحالة الاقتصادية الخانقة التى انحدر إليها المواطن فى السنوات الأخيرة.
***
ليس فى قولى هذا تبرير للتنمر، الذى أمقته كل المقت، لأنه يعكس نفسا فقدت السيطرة على نوازعها الانتقامية، واستسلمت لما يمكن أن يسببه الظلم الاجتماعى من أحقاد، وأغفلت، وهى ترفع على حساباتها شعارات الدين، أن أولى وصايا الدين أن «جادلهم بالتى هى أحسن»! لكن الناظر فى مسألة التنمر لا يسعه أن يفصلها عن سياقها الأكبر، ولا يجدر به ألا يبذل محاولات للفهم والاستيعاب.
إن هذا البذخ الذى ظهر فى الجونة ليلة افتتاح المهرجان قد أغضب المواطن العادى ولم يسعده. فهو لم يفكر فى المهرجان من زاوية الاستثمار والسياحة، التى يعلم أنها زاوية لم يعد معنيا بجنى ثمارها، ناهيك عن زاوية صناعة السينما التى لم يعد قادرا على شراء تذاكرها. لكنه نظر من زاوية أخرى تماما لم ير منها إلا نخبة انفصلت عنه وباعت قضاياه. زاوية أشعرته بالاغتراب عن المشهد الذى أطل عليه من التلفاز. فما كان منه إلا أن هرع إلى وسائل التواصل، ليسدد سهامه دون تمييز لأول ممثلى هذه النخبة!
***
شىء ما فى غرائبية الأحداث، فى انفصال ما تعرضه الشاشات عما يمر به الناس، شىء ما فى صخب المهرجانات، وفى كرنفالية الإطلالات، فى سيريالية الحوارات، شىء ما وأشياء، مفتعلة ومبتذلة، ترسم تحت طبقات المساحيق وجه المأساة.

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات