دخلنا كدول عربية أخطر مراحل التطبيع مع إسرائيل، وهى ما أطلق عليه مرحلة «التطبيع بلا مقابل.. لمواجهة أوهام وجود أخطار مشتركة»! ويحاول المطبعون الجدد إقناع شعوبهم العربية بأن هناك أخطارا تهددهم وتهدد إسرائيل معهم مثل الخطر الشيعى، وخطر تنظيم داعش، وخطر الإرهاب... من هنا وجب علينا (نحن وإسرائيل) مواجهة هذه الأخطار معا. من هنا فنحن نشهد اليوم أخطر مراحل الدفع المتعدد المنصات تجاه تبنى خطوات وسياسات تطبيعية تتجاوز كل ما سبق. ويمكن بسهولة رصد منصة واشنطن وما يجرى فيها وما يخرج منها فى هذا الاتجاه. وهناك منصة الهرولة التى يهرع إليها بعض الحكام العرب مستغلين حالة رسم خريطة تحالفات جديدة بالمنطقة، إلا أن الخطر هو منصة التعليم العربى، وما يجرى فيها من أجل فرض واقع مزيف جديد يحجب عن الأجيال الجديدة من أطفال وشباب العرب حقائق تاريخية طالما آمن بها آباؤهم وأجدادهم.
تاريخيا وعلى الرغم من هزائمها العسكرية المدوية أمام إسرائيل، التزمت الدول العربية، ولو شكليا، بشروط الحقوق الفلسطينية والدولة الفلسطينية على حدود ما قبل 1967، قبل دخولها فى أى مفاوضات سلام مع إسرائيل. وبعدما عقدت مصر ومن بعدها الأردن اتفاقيات سلام منفصلة، بادرت المملكة العربية السعودية لإطلاق مبادرة عربية عام 2002 تضمنت وللمرة الأولى استعداد الدول العربية اعتبار النزاع العربى الإسرائيلى منتهيا، والدخول فى اتفاقيات سلام مع إسرائيل بهدف تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة بشرط الانسحاب الكامل من الأراضى العربية المحتلة عام 1967، والتوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يُتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 194 مقابل تطبيع الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل. إلا أن التطبيعيين الجدد لم يعد هناك ما يلزمهم بهذا الحد الأدنى من ضرورة إقرار الحقوق الفلسطينية.
***
من واشنطن يزداد الحديث عن «التحالف العربى الإسرائيلى» كواقع جديد، وهو ما يمثل وسيلة ضغط مباشرة وفعالة على العقل الجمعى العربى للتأقلم على وضع مخالف لما آمنت به شعوب العرب لعقود. ومن مظاهر هذا التوجه عقد فاعليات علنية تجمع مسئولين إسرائيليين بنظرائهم العرب ممن لا تقيم دولهم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. وشهد مجلس العلاقات الخارجية اجتماعا بين اللواء السعودى «أنور عشقى»، الذى يرأس حاليا مركز «الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية والقانونية» بمدينة جدة، إضافة للمدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية «دور جولد». بعد ذلك شهد معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، والمعروف بقربه من دوائر اللوبى اليهودى، جلسة علنية جمعت بين الأمير «تركى الفيصل»، رئيس المخابرات السعودى الأسبق، وبين«يعقوب عميدور» مستشار الأمن القومى الإسرائيلى الأسبق. وتحدث السعوديون عن مشكلات الشرق الأوسط وعن ضرورة دمج إسرائيل فى منظومة مواجهة التحديات المشتركة مثل خطر الإرهاب والخطر الإيرانى.
كذلك تشتد الجهود الإسرائيلية داخل واشنطن لاستغلال حالة الضعف العربى غير المسبوق من أجل تحسين وضعها التفاوضى فى أى عملية سلام مستقبلية مع الفلسطينيين. وتركز هذه الجهود على القضاء على أى مسوغات قانونية دولية دعت فى السابق لانسحاب إسرائيل من الأراضى الفلسطينية التى احتلتها فى حرب يونيو 1967 عن طريق المطالبة بإعادة كتابة قرار مجلس الأمن 242، والذى صدر قبل 47 عاما وأقره مجلس الأمن بإجماع الأصوات.
***
أما هرولة القادة العرب تجاه إسرائيل فلم تعد سرا، وتحدث حاكم عربى خلال زيارته لمدينة نيويورك فى جلسة مغلقة جمعته بقادة منظمات يهودية، إضافة لعدد من كبار المفكرين وخبراء شئون الشرق الأوسط من عدة مراكز بحثية أمريكية، نادى خلالها بضرورة استغلال واشطن لحالة الضعف العربى غير المسبوق، والانقسام والتشتت الفلسطينى من أجل إنهاء قضية فلسطين. وقال ذلك الحاكم إن العرب، حكومات وشعوبا، مشغولون بدرجة كبيرة بشئونهم الداخلية الضيقة سواء كانت تلك تبعات للربيع العربى، أو تبعات ظهور وتمدد تنظيم داعش، وهو ما سمح بتلاشى الاهتمام الشعبى والحكومى الرسمى بالشأن الفلسطينى. وذكر الحاكم العربى الحاضرين بأن الدول العربية المعتدلة ستضغط على الفلسطينيين للقبول بدولة تقدمها وتعرفها وتصمم حدودها إسرائيل. ونصح الحاكم الحاضرين بضرورة استغلال فرصة الوضع العربى الراهن، وبسرعة استغلال هذه الفرصة الفريدة لمنح الفلسطينيين ما يشبه الدولة لأنه لا أحد يضمن ما سيأتى به الغد. وجاء الادعاء الحكومى المصرى أن جزيرتى تيران وصنافير سعوديتان لتنتقل معه التزامات مصر تجاه إسرائيل للمملكة السعودية خاصة بعدما أكد وزير خارجيتها عادل الجبير التزام بلاده بكل الاتفاقيات الدولية التى أبرمتها مصر بشأن الجزيرتين، ومنها اتفاقية «كامب ديفيد» بين القاهرة وتل أبيب، وهو ما يمثل صورة أخرى غير مباشرة تدفع فى نفس الاتجاه.
***
إلا أن أخطر أساليب المطبعين الجدد ظهر جليا فى تغيير المناهج التعليمية للأطفال العرب. فقد اطلعت أخيرا على دراسة جديدة للباحث الإسرائيلى أوفير وينتر بعنوان «السلام مع إسرائيل فى الكتب الدراسية المصرية: ما الذى تغير بين عهدى مبارك والسيسى؟»، ونُشرت فى دورية «تقديرات استراتيجية» عدد أبريل ــ مايو 2016 الصادر عن معهد دراسات الأمن القومى الإسرائيلى بجامعة تل أبيب. ومن خلال تحليل محتوى كتاب «جغرافية العالم العربى وتاريخ مصر الحديث» والذى تم تطويره أخيرا والمقرر على المرحلة الإعدادية فى مصر، خلصت الدراسة إلى استنتاج مفاده أن «هناك تغييرات إيجابية فى تناول قضية السلام مع إسرائيل بالمقارنة بالكتب الدراسية السابقة، حيث تم تناول السلام كشرط مسبق لإحياء الاقتصاد المصرى وتم تناول إسرائيل كشريك شرعى فى السلام يحظى بعلاقات ودية مع الدولة المصرية. فى حين حظى الصراع العربى الإسرائيلى والقضية الفلسطينية بمساحة نصية أقل من الماضى وتراجع التركيز على الالتزام المصرى تجاه الفلسطينيين ودور الرئيس المصرى فى الاتفاقات الفلسطينية ــ الإسرائيلية، وهو ما يعكس تغير أولويات النظام المصرى». وتطلق هذه الدراسات ناقوس خطر كبير، إذ أنه وبينما النخب تغرق وسط فوضى الأزمات اليومية التى يحيون فيها، يركز البعض على جهود تُنسى الأجيال الجديدة من الشباب والأطفال العرب أصل الصراع، وهو ما يعنى إنجاح استراتيجية إسرائيل فى محاولة إقناع العرب أن «الاحتلال ليس هو أصل القضية»، وأن احتلال فلسطين ليس قضيتهم على الإطلاق.