جلال أمين.. «عين» الطبقة الوسطى! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:14 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جلال أمين.. «عين» الطبقة الوسطى!

نشر فى : الجمعة 28 سبتمبر 2018 - 9:40 م | آخر تحديث : الجمعة 28 سبتمبر 2018 - 9:40 م

بالتأكيد يمثل رحيل الكاتب المعروف والمفكر الاقتصادى المرموق جلال أمين (1935 ــ 2018) خسارة فادحة لا تعوض لجمهوره الغفير؛ من القراء والتلاميذ وعارفى قدره، وأهمية ما كتب من دراسات ومؤلفات لما يزيد على خمسة وستين عاما متصلة.
فى كتابه «مكتوب على الجبين» (الكرمة، 2015، يمثل تقريبا الجزء الثالث من سيرته الذاتية ذائعة الصيت) كتب جلال أمين:
«عندما أستعيد فى ذهنى ما رسخ لدى من انطباعات عن هذا الشخص أو ذاك فيمن تعرفت عليهم على مر السنين يعترينى العجب! وجدت معظم هؤلاء من الألغاز المستعصية على الفهم. لقد أحببت كثيرين منهم حبا جما واعترانى نفور شديد من كثيرين غيرهم. ولكننى وجدتهم جميعا سواء من أحببت أو كرهت ألغازا بشرية. لا أستطيع أن أفهم كيف اجتمعت فى الواحد منهم هذه الصفات المتعارضة أو كيف يستقيم تصرفه على نحو معين مع شخص ما، مع تصرف مضاد له تماما مع شخص آخر، أو حتى مع نفس الشخص فى وقت آخر.. بل أننى لاحظت أننى حتى مع الأشخاص الذين ظللت مدة طويلة أعتبرهم واضحين لى تماما ومتسقين تماما مع أنفسهم أفاجأ بعد هذا بتصرفات منهم غير مفهومة فيتحولون فى نظرى فجأة إلى ألغاز، وكأنى لم أعرفهم قط على حقيقتهم..».
كانت تستوقفنى هذه العبارة بشدة؛ إنها صادقة حد الجرح! هو بذاته كان لغزا هائلا رغم حضوره العارم وصخبه المعرفى والفكرى! جمع بين أمور يصعب بالفعل الجمع بينها ولا يتأتى ذلك إلا بفضل تركيبة إنسانية واجتماعية وثقافية خاصة ومختلفة! آل أحمد أمين كلهم كذلك! فيهم التأسيس الثقافى المذهل، وفيهم غرابة أطوار لافتة، وفيهم القدرة على الإنتاج والمشاركة فى المجال العام بصورة مبهرة، وكلهم متفوقون ومتميزون فى مجالات تخصصهم المتباينة!.
فى الباب الذى عقده تحت عنوان (مشاهير وعظماء)، ستقرأ عن عشر شخصيات صرح باسم بعضها وأخفى «عمدا» اسم بعضها الآخر، وإن كان لا يصعب على القارئ الحصيف أن يستنتج بسهولة الشخصية التى يتحدث عنها من الوصف العام الذى يقدمه، أو من إشارات إلى الأدوار التى ساهمت بها فى الحركة الثقافية المصرية. هذا الباب فى تقديرى واحد من أجمل وأمتع أجزاء سيرته الذاتية وأشدها دلالة على «تركيبة» جلال أمين و«خلطته» الإنسانية، النفسية والعصبية والمزاجية، فى علاقاته مع البشر والناس، خصوصا ممن شهروا فى عالمنا العربى من رجالات الفكر والثقافة والأدب والسياسة. ستجد القياس الدقيق والتأويل المسرف، الرصد المستقصى للمعلومات والبيانات والإهمال غير المبرر لبعض البديهيات ومما يجب أن يعلم بالضرورة! ستجد العرض الواضح والشرح المقنع وستجد فجوات وثغرات لا تغيب على من هو مثله علما وثقافة وخبرة!.
فجلال أمين، فى النهاية، ورغم تخصصه الدقيق فى الاقتصاد ومنهجيته الصارمة التى تحلى بها فى دراساته العلمية؛ فإنه ممن يتركون العنان لانطباعاتهم وأذواقهم فى الحكم على الناس (والأعمال الفنية والأدبية أيضا) حتى وإن شطت قليلا أو كثيرا أو جنحت بعيدا فى أحكام قاسية هنا أو هناك. صحيح لا تخلو قراءته فى النهاية من نقدات نافذة تظهر بجلاء حينا وتتوارى أحيانا أو لمحات تحليلية بارقة، لكن انطباعيته النقدية المحافظة، البعيدة كل البعد عن تقبل الذوائق الحديثة والمعاصرة، بكل ما يتوفر لها من صدق وحرارة وصراحة واقتناع، قد تجبرك فى النهاية على احترامها والتسليم الكامل بأنها قناعة كاتبها ولا شىء آخر حتى وإن اختلفت معه فى رأى أو حكم أو فى كل قراءاته النقدية!.
لا أحد ينكر أن جلال أمين كان واحدا من أصحاب الأساليب المميزة فى الكتابة المعاصرة، وقليلون هم الآن الذين يمتلكون أساليبهم (أنا ممن يوقنون بصحة المقولة التى أطلقها أحدهم «فرنسى على الأرجح» ذات يوم بأن الأسلوب هو الرجل)، وما كان لجلال أمين أن يصل إلى قلوب الناس وعقولهم بغير أسلوب واضح ناصع، بقدر ما يحمل من بساطة وسهولة قد تغرى الكثيرين بتقليدها، دون أن يجدوا ذلك سهلا ميسورا، بقدر ما كان يعالج أدق الخلجات الشعورية والأفكار المنطقية والنظريات الفلسفية والعلمية بذات اليسر والوضوح.
هنا أنت إزاء رجل صقلته الحكمة والمعرفة والتجربة، وأنضجته على نار هادئة ثقافة واسعة وروافد متعددة؛ اختلط فيها العربى الموروث بالغربى الأصيل، وبالتأكيد لعبت عوامل الوراثة دورها فى ترسيخ ذلك وبروزه على نحو ما ظهر فى أعماله كلها..
رحم الله جلال أمين؛ ابن الطبقة الوسطى و«عينها» الذكية اللماحة، وأسكنه فسيح جناته..