أشياء كثيرة أثارت انتباهى فى البرنامج الانتخابى للحزب الوطنى لاختيار نواب الشعب صباح اليوم فى كل محافظات مصر.. لن أتوقف عند معارك كثيرة دارت حول هذه الانتخابات ابتداء بالرقابة الدولية وما حدث من ردود أفعال حول الموقف الامريكى وانتهاء بما شهدته الساحة من عمليات اعتقال واسعة لجماعة الإخوان المسلمين أو ما شهده الشارع المصرى من أعمال عنف ليست جديدة على مناخ الانتخابات فى مصر.. إن كل ما نرجوه اليوم أن تعبر هذه الانتخابات بأقل قدر من الخسائر وأيضًا أقل نسبة من التزوير..
توقفت كثيرًا عند عدد من الملاحظات فى البرنامج الانتخابى للحزب الوطنى كان أخطرها فى تقديرى تجاهل تمامًا ثلاث قضايا رئيسية فى حياة المصريين هى الثقافة.. والأمية..والشباب.. وتساءلت هل يعقل أن حزبًا حاكمًا يتحدث عن مستقبل 80 مليون مواطن مصرى لا يذكر شيئـًا فى برنامجه عن الثقافة أو الأمية أو الشباب؟!
كانت الملاحظة الأولى فى البرنامج هى الإصرار على صياغته باللغة العامية وليست اللغة الفصحى بما فى ذلك شعار الحزب «علشان تطمن على مستقبل ولادك صوتك للوطنى».
ولا أدرى من هو صاحب هذا القرار لأنه يمثل انقلابا فى تركيبة العقل المصرى الذى كان دائمًا حريصًا على لغته العربية الفصيحة بكل ما تحمله من تراث عريق.. قليلا ما كنا نستخدم اللغة العامية فى مؤسساتنا الثقافية أو السياسية الرسمية.. وقليلا ما كنا نسمع وزيرا أو مسئولا يتحدث بالعامية.. ولكن الخلل الذى أصاب كل شىء فى حياتنا اكتسح فى طريقه اللغة الفصحى فأصبحت غريبة فى وسائل الإعلام والصحافة وأحاديث المسئولين وحتى مناهج التعليم وتسربت العامية إلى المحاضرات فى الجامعات والدروس فى الفصول ومرافعات المحاكم وهبطت إلى الدرك الأسفل فى غناء المطربين والمطربات.. حقيقة لا أدرى لماذا صاغ الحزب الوطنى برنامجه باللغة العامية التى جاءت ركيكة فى أحيان كثيرة.. فى تقديرى أن هذا الموقف يعكس شيئـًا من موقف عام للحزب الوطنى تجاه الثقافة وتجاه اللغة العربية وهو يعكس فى النهاية قضية أخطر تتجسد فى هذا الانتماء الغريب لدى عدد من كوادر الحزب الحاكم..
نأتى إلى القضية الأولى فى القضايا الثلاث الغائبة وهى قضية الثقافة خمس كلمات فقط لا معنى لها ولا فكر وراءها ولا تحمل شيئا على الإطلاق إنها فقط مجرد سد خانة ذكرها البرنامج على استحياء وكأنه يتبرأ منها.. يقول البرنامج فى طرحه لقضية الثقافة «دعم دور رعاية الحركة الإبداعية المصرية بجميع أشكالها والاستمرار فى تحديث البنية التحتية للثقافة».. هذه الكلمات هى كل ما جاء عن الثقافة فى برنامج الحزب الوطنى.. وهذه الكلمات تحتاج إلى مذكرة تفسيرية من جهابذة وزارة الثقافة وكوادرها الأكاديمية والوظيفية وما هو المقصود برعاية الحركة الإبداعية وهل الثقافة هى الإبداع فقط.. وما هى صورة هذا الإبداع وماذا عن قطاعات كثيرة لا تدخل تحت هذا العنوان الإبداعى.. أين الخدمات الثقافية وأين الدور الأساسى للثقافة فى بناء الإنسان المصرى.. وماذا عن نوبات التخلف الفكرى التى أصابت عقول أبنائنا.. وما هو المقصود بالبنية التحتية للثقافة التى أشار إليها البرنامج الانتخابى للحزب الحاكم هل هى المنشآت الأسمنتية التى سيطرت على نشاط الوزارة بكل مؤسساتها فى المبانى والمنشآت والمكاتب وكميات الحديد والأسمنت وهل هذا هو الوجه الحقيقى للثقافة وماذا يفيد أن أقوم بإنشاء ألف دار للسينما وليست لدى أفلام؟.. ماذا يعنى أن افتتح ألف مسرح بلا مسرحيات؟.. ماذا يعنى أن أترك الشباب حائرًا على المقاهى ومكاتب الانترنت وليس هناك زاد ثقافى أو فكرى حقيقى يقدم له؟.
إن هذا الطرح لمفهوم الثقافة هو السبب الرئيسى فى كل ما أصاب الثقافة المصرية من انهيار وتراجع.. إنه فهم خاطئ لمعنى الثقافة.. وفهم خاطئ للمسئولية الثقافية وقبل هذا كله تجسيد لحالة الارتباك والخلل التى أصابت أجهزة الدولة فى قضية غاية فى الأهمية والخطورة وهى عقل هذا الشعب..
أذكر يومًا أننى سألت مسئولا رفيعًا لماذا لا توجد أمانة للثقافة والفكر فى الحزب الوطنى، هناك أمانة للفلاحين وأخرى للعمال وثالثة للمهنيين ورابعة للحرفيين ولكن لا توجد أمانة للثقافة والفكر فى الحزب الوطنى؟.. وكانت الإجابة مضحكة..
أنا لا أتصور ألا تكون هناك خطة ثقافية متكاملة الجوانب فى برنامج الحزب الوطنى لان هذا الحزب يحكم وطنا قام كل تاريخه على الثقافة والفكر وعقول بعض أبنائه.. إذا كان الحزب بكل كوادره لا يدركون الوجه الحقيقى لمصر أنها دولة ثقافة وحضارة فهذه كارثة وإذا كانوا يدركون فإن الكارثة أكبر..
منذ عشرات السنين كانت الكتب الثقافية تصدر من مصر وكانت رموز الثقافة العربية من مصر وكان زعماء الأمة من كبار المثقفين.. وقبل هذا كله كانت المؤسسات الثقافية المصرية هى أكبر زاد تاريخى لهذا الشعب منذ مكتبة الاسكندرية القديمة مرورًا على الأزهر الشريف فى العصر الإسلامى الفاطمى وانتهاء بجامعة القاهرة فى القرن العشرين.. هل يعقل بعد ذلك ان يكون هذا هو نصيب الثقافة فى برنامج الحزب الوطنى.. وأين المسئولون عن الثقافة من هذا كله وكيف يقبلون أن يتوقف كل وجودهم على سطرين فى آخر القائمة؟
وبعد ذلك كله نجد من يتحدث عن الفراغ الثقافى والخلل الدينى الذى أصاب عقول أبنائنا وتحاول أن تبحث عن مشروع ثقافى يواجه هذه الظواهر ولا تجد شيئـًا غير الاحتفاليات والمهرجانات والحفلات والولائم.. إن هذا الإهمال الشديد لأحوال الثقافة فى برنامج الحزب يؤكد موقف الدولة من الثقافة الحقيقية والثقافة السياحية لأن ما يقدم الآن للعقل المصرى رقص وسخف وبلاهة وتخلف لا يدخل أبدًا فى باب الثقافة الحقيقية أنها قشور كاذبة فيها من الادعاء أكثر مما فيها من القيمة..
القضية الثانية التى غابت عن برنامج الحزب الوطنى هى فى تقديرى قضية مصر الأولى وهى الأمية هذا الداء الذى ينخر فى العقل المصرى منذ سنوات طويلة.. فى دول العالم ومنذ عشرات السنين احتفلت دول كثيرة بوفاة آخر أمى فيها وفى البلاد العربية استطاعت الكتاتيب والمساجد أن تواجه مشكلة الأمية وتراجعت فى عدد من هذه الدول بنسب عالية.. إلا أن الأزمة الحقيقية أن مصر لم تتجاوز هذه المشكلة وكانت آخر تقديرات منظمة اليونسكو أن نسبة الامية فى الدول العربية تصل إلى 30% فى بعض الحالات ومنها مصر وهذا يعنى أن فى مصر الآن ما يقرب من 20 مليون مواطن لا يقرأون ولا يكتبون.. إن مثل هذه الظاهرة الخطيرة تؤكد أن هذا العدد الضخم يمثل تهديدًا حقيقيًا لمستقبل هذا البلد على المستوى الاجتماعى والسياسى والثقافى والدينى..
لنا أن نتصور مستوى تفكير 20 مليون إنسان لا يقرأون ولا يكتبون فى عصر الكمبيوتر والانترنت والتليفون المحمول.. إنهم عبء كبير على المستوى السياسى وهم طاقة مهدرة على المستوى الاقتصادى وهم سلوك مشوش على المستوى الاجتماعى وقبل هذا كله هم قنابل موقوتة مع البطالة والمخدرات.. لنا أن نتصور هذه الثلاثية الخطيرة فى اهتزاز مقومات المجتمع البطالة والأمية والمخدرات.. لنا أن نتصور حجم الجرائم فى العشوائيات والأحياء الفقيرة وتأثير الأمية فى هذه الظواهر الخطيرة..
إن عدم إدراج مشكلة الأمية بأى صورة من الصور فى برنامج الحزب الوطنى يعتبر تجاهلا خطيرًا لواحدة من أكبر الأزمات فى حياة المصريين.. لم يذكر البرنامج شيئـًا عن حلول مقترحة لهذه الأزمة أو رؤى مستقبلية لمواجهتها أو ما اتخذته الحكومة من إجراءات للقضاء عليها.. ان الأمية واحدة من أخطر وأسوأ مظاهر التخلف فى عالمنا المعاصر وكان من أخطاء ثورة يوليو أنها لم تستطع القضاء على هذه المشكلة ثم توالت مظاهر الإهمال حتى وصلت إلى ما نحن فيه الآن.. كان ينبغى أن يحسم الحزب الحاكم هذه القضية بعد ثلاثين عامًا قضاها فى حكم مصر وكان ينبغى أن يحتفل المصريون منذ سنوات بعيدة بوفاة آخر إنسان لا يقرأ ولا يكتب فى ربوع المحروسة..
لقد أهملت الحكومة التعليم بكل مراحله وفى كل يوم نتباكى على فساد أحوال التعليم وتراجعه ولكن مشكلة الأمية هى الأخطر والأسوأ من حيث التأثير لقد تحدث برنامج الحزب الوطنى عن أرقام كثيرة ولم يذكر شيئـًا عن مشكلة الأمية قال لنا البرنامج إن أكثر من 55 مليون مواطن يحملون جهاز التليفون المحمول وأن 14 مليون مواطن يستخدمون الانترنت وهذه الأرقام إذا وضعناها بجوار 20 مليون مواطن لا يقرأون ولا يكتبون يتضح لنا حجم الكارثة..
أما القضية الثالثة التى أسقطها برنامج الحزب الوطنى ولم يذكرها من قريب أو بعيد فهى قضية الشباب.. ولاشك أن هذا التجاهل يمثل خللا رهيبًا فى رؤية الحزب لقضايا هذا الوطن.. هل غاب عن المسئولين فى الحزب الوطنى أن 80% من الشعب المصرى فى مراحل الشباب المختلفة وأن فى مصر أكثر من 45 مليون شاب وأن هؤلاء الشباب هم المستقبل وأنهم يعانون من مشاكل البطالة والأمية والمخدرات وأن إهمال هذا الحجم الرهيب من البشر يمثل تهديدا خطيرا لمستقبل مصر اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.. هل انحصرت اهتمامات وأولويات الحزب الوطنى فقط فى هذه النخبة الحاكمة أو ما يحيط بها من جماعات المنتفعين فى كل المجالات.. كيف يهمل برنامج الحزب شباب مصر فى الثقافة والأمية والتعليم والرياضة والتربية الدينية والأخلاقية..
كان ينبغى أن يتوقف الحزب عند قضايا الشباب خاصة قضية المخدرات والبطالة وهما أخطر ما يواجه مستقبل الأجيال الجديدة..
لقد طرح الحزب فى برنامجه سبع قضايا أساسية هى بالترتيب المواطنة والديمقراطية.. والأمن القومى.. والاستثمار.. والمرافق والخدمات.. ومكافحة الفقر.. والرعاية الصحية.. ومجتمع المعرفة..
ولاشك أن الشباب يدخل فى كل هذه الموضوعات كيف يمكن لنا الحديث عن مجتمع المعرفة فى ظل 20 مليون إنسان لا يقرأون ولا يكتبون.. وكيف يمكن أن نتحدث عن مجتمع المعرفة فى ظل غياب رؤى ثقافية وفكرية للمجتمع هل كل ما يراه الحزب الوطنى وحكومته لمجتمع المعرفة هو الموبايل والانترنت و35 مليار جنيه تدخل جيوب أصحاب شركات المحمول.. كيف نتحدث عن قضايا الاستثمار الاقتصادى ونتجاهل التنمية البشرية أو نتحدث عن مكافحة الفقر ونتجاهل العشوائيات أو نتحدث عن الديمقراطية أمام شعب لا يقرأ ولا يكتب..
فى ظل هذا كله جمع برنامج الحزب الوطنى مجموعة غريبة من الأرقام التى تطرح تساؤلات كثيرة أن أهم إنجازات الحكومة فى مجال الاقتصاد هى تحصيل الضرائب وليس زيادة الإنتاج وأهم الأرقام فى الميزانية هى أرقام الدين الحكومى.. يقول البرنامج أن الضرائب وصلت إلى 163 مليار جنيه وأن الدين الحكومى وصل إلى 761 مليار جنيه وهذا الرقم لا يشمل الدين الخارجى وهناك تقديرات أخرى منها تقرير البنك المركزى الأخير تقول أن حجم الدين الخارجى والداخلى قد تجاوز رقم التريليون أى ألف ألف مليون جنيه..
الأغرب من ذلك كله أن تقرير يؤكد أن مصر شهدت إنشاء أكثر من 14 ألف شركة خلال عامين أين هذه الشركات وأين إنتاجها وماذا صدرت للأسواق الخارجية وكم عدد الشباب الذى عمل فيها وأين حصيلتها من الضرائب..
لقد توقفت كثيرًا عند هذه الأرقام وأنا أتابع غياب القضايا الثلاث من برنامج الحزب حيث لا ثقافة ولا شباب ولا أمية..
لقد حدث ذلك رغم الارتباط الشديد بين القضايا الثلاث أن الأمية تنخر فى عقول شبابنا.. والثقافة الغائبة كارثة أحاطت بالعقل المصرى وتركته للإرهاب والتخلف والتطرف والشطط.. ولهذا فإن غياب هذه الثلاثية عن فكر وبرنامج الحزب الوطنى يمثل خطرًا كبيرًا..
أن إهمال الشباب جناية على المستقبل.. وإهمال الثقافة جناية على عقل الأمة.. وانتشار الأمية جناية على الحاضر والمستقبل معا وهو عار ينبغى أن نتخلص منه بكل الأساليب..
كنت أتمنى أن يتوقف الحزب كثيرًا فى برنامجه عند كل هذه القضايا وأن يضع لها برامج ثابتة لأننى لا أتصور أن يتجاهل حزب من الأحزاب قضايا الشباب وهم عماد المستقبل..
ولعل الحزب العتيق يتفادى هذه الأخطاء خاصة إصراره على أن يكتب البرنامج باللغة العامية حيث بدا الحزب وكأنه ضد اللغة الفصحى وهذا خطأ فادح سواء جاء عن قصد أو غير قصد..
لقد جاء برنامج الحزب فى صورته الأخيرة وبنوده السبعة بعيدًا كل البعد عن أهم قضايا المجتمع ولا أدرى هل هو عامل السرعة أم هى الأولويات أم أن صوت رجال الأعمال كان هو الأعلى ولذلك تصدرت قضايا الموبايل ومجتمع الاتصالات صدارة البرنامج بينما غابت قضايا أخرى هى فى تقديرى الأخطر والأهم..