الإنسان والفنان.. مشاركة ومفارقة! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الخميس 6 فبراير 2025 6:44 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

الإنسان والفنان.. مشاركة ومفارقة!

نشر فى : السبت 28 ديسمبر 2024 - 6:15 م | آخر تحديث : السبت 28 ديسمبر 2024 - 6:15 م

لا أتذكر ما يقارب هذه التجربة التشاركية فى كتابة رواية واحدة إلا تجربة طه حسين مع توفيق الحكيم لكتابة رواية «القصر المسحور»، والتى بدت محاولة لم تتكرر، ولم يتوقف عندها الكثيرون، ولكنها ظلت دليلًا على إمكانية المشاركة فى نص واحد، مادته الخيال، وليس البحث العلمى أو الأدبى، ومنهجه التكامل، وليس الانفراد، وقانونه الحوار والجدل، وليس الخط المفرد، أو اللون الواحد.
هذه النوفيلا الصادرة عن دار الشروق تحت عنوان «صدى يوم أخير»، تسير على نفس المنوال، وربما بخصوصية تجربة مختلفة، فقد اشترك فى تأليفها روائى مع روائية من جيلين مختلفين، وكانت ظروف كتابة النوفيلا، ونشرها فى ستة فصول، فى مجلة «سيدتى»، بين عامى 2002 و2003، فى ظروف جدّ طريفة، كما أن الروائى المخضرم، والكاتبة الشابة، لم يلتقيا وقت الكتابة، ولم يحددا خطوطا عريضة للنص، وكانا يتبادلان كتابة الفصول، عبر الحدود والدول، ما بين القاهرة ولندن وكندا.
النوفيلا كتبها إدوار الخرّاط ومى التلمسانى معًا بهذه الطريقة، بدأت الفكرة من إدوار الذى كتب بالفعل الفصل الأول فى المجلة، واختار مى لكى تشاركه التجربة، فتحمست ووافقت، وكان قد قرأ بعض أعمالها، وكتب عنها، ويبدو أن إدوار، المولع بالتجريب، والمبشّر بكتّاب وكاتبات «الحساسية الجديدة»، رأى أن تجربة الكتابة المشتركة مع كاتبة من جيل آخر، ستفرز حتما شيئا مختلفا، وستقدم للقارئ عملا يستحق التأمل، دون أن يصادر على شريكة الكتابة، ودون أن يشترط شيئًا عليها، سوى أن تتفاعل مع فصوله، وأن ترد على كل فصل، عبر الفاكس، وفوق المسافات، بفصل آخر، حتى تكتمل الحكاية.
نُشرت هذه الفصول أولًا تحت عنوان «غرام وانتقام»، وبعد النشر نسيها إدوار، ونسيتها مى، ورغم لقاءاتهما المشتركة، وحوارات وزيارات فى القاهرة، لم يعلقا أبدًا على التجربة، وظنَّت مى أن الفصول قد ضاعت فى فوضى الحقائب، وفى زحام الانتقالات، ووسط طوفان الأوراق والوثائق والمستندات، وبين دهاليز مكتبة إدوار الضخمة، ولكنها عثرت لديها على تلك الفصول، فكأنها وجدت كنزًا، وكأنها استعادت حياة، واستردت ذاكرة مفقودة.
لم تغيّر شيئا من فصول إدوار الثلاثة، وراجعت وعدّلت بشكلٍ طفيف من فصولها الخاصة، ولكنها غيّرت العنوان الذى نشرت به الفصول فى المجلة، واختارت بدلًا من «غرام وانتقام» عنوانًا آخر قادما من النص نفسه، وتحديدًا من فصل كتبه إدوار، فكان العنوان الجديد: «صدى يوم أخير».
تستعير مى من الكاتب المغربى عبد السلام بنعبد العالى تعبير «الكتابة بيدين» وصفًا لهذه التجربة المشتركة، يبدأ إدوار، فترد مى، يقدم الحدث المحورى فى الفصل الأول، فتتأمل مى وتفسّر وتقدم رؤيتها، تضع نفسها فى موضع الشخصيات، وتستعيد الحالة، وتكتشف المعنى بين السطور، ثم تضع بذرة جديدة، ليبدأ إدوار فى الفصل الجديد فى التأمل والتفسير، يروى «النبتة» فتصبح شجيرة.. وهكذا.
لدينا أربع شخصيات، وصديقة خامسة تروى الحكاية، بل هما شخصيتان محوريتان فقط: إدريس النحات الكبير، وليلى الصحفية، المهتمة بالفن التشكيلى، وبإدريس الرجل متعدد العلاقات، ثم شخصية ناهد، صديقة ليلى، والتى تنافس صديقتها فى علاقتها بإدريس، وحسنى، صديقهما الذى يحب ليلى.
مربّع صغير تضطرب أضلاعه على مدى عشرين عامًا، وعبر تيمة مدهشة: سحر لحظة الإبداع الفنى، فى مقابل «عادية» بل وربما ابتذال العلاقات الأرضية الإنسانية.
فى إدريس يتجسد هذا التناقض بوضوح، ما بين منحوتاته ولوحاته العظيمة، وبين أنانيته بل وقسوته فى مجال المشاعر والأحاسيس، وكأن كل علاقاته مجرد مواد لفنه، وكأنه يقتات على البشر، يجعلهم وقودًا وقربانا للفن، لا فرق فى ذلك بين ليلى وناهد وأخريات كثيرات، بل إن له زوجة وأولادًا أيضًا.
سؤال النوفيلا بسيط وعميق حول هذه الثنائية بين الجانب الأرضى فى الفنان، وبين الجانب الساحر والسماوى، وعلاقة الشخصيات الأربع والتى لا تسير بشكلٍ خطى، وإنما عبر قفزات وانتقالات، فيها الكثير من الغرابة، وتجمع بين القوة والهشاشة، وتعكس بشكلٍ ما تناقضات الإنسان عموما، فالثلاثة، ليلى وناهد وحسنى، يدورون حول محور إدريس، وفى مرحلة ما تكتب ليلى عامودًا عن الفن التشكيلى، تطرح من خلاله أسئلة، دون أن تحصل على إجابات، ولكنها لن تمتلك إدريس أبدًا، علاقتهما تسير بين شد وجذب، وستكون زيجاتها وطلاقها عبر السنوات عنوانا على العودة إلى الواقع، بعد الاحتراق بنار الفنان.
فكرة لامعة عن نحت الحجر، ونحت المشاعر والأحاسيس، عن الآثار الجانبية لقطع الآلات الكهربائية لمادة الحياة، مع تقديم نماذج إنسانية مؤرقة وحائرة. نحن نرى التمثال واللوحة، ولا نعرف ثمن إبداعهما، نرى نور الفن، ولا نعرف الجوانب الرمادية فى الفنان، بجماليون ما زال لا يرى إلا نفسه، وما زالت إشكالية الفنان ومادته قائمة، وكذلك إشكالية الفنان وعلاقتة بالآخرين.
ولكن ظلت تجربة «صدى يوم أخير» فى حاجة إلى بعض التماسك، وإلى درجة أفضل من التنسيق، على الأقل لوضع الخطوط العامة للنص، كما أن الشخصيات كانت فى حاجة أكثر إلى التعميق، وبناء الدوافع، ومحددات السلوك، وظهرت أيضًا مشكلة الصقل والتوازن والتناسق، أعنى بذلك طبيعة أسلوب إدوار الجزل، واختلافه عن أسلوب مى، والتفاوت بين تكثيف إدوار، واستطراد مى.
بدا لى وكأننا أمام تمثال واحد نحت بضربتى إزميل، واحدة قوية وحادة، والثانية مرهفة وناعمة، بأفكار عقلانية، وبمشاعر وأحاسيس متدفقة.
من زاويةٍ أخرى، لم يكن الزمن وتدفقه حاضرًا، مع أن الزمن هو النحات الأعظم والأهم، وباستثناء الفصلين الأخيرين، وأحوال ليلى فى شيخوختها، نحن نتأمل حالة تتهادى، مثل موج النيل بعد ترويضه.
ربما تكون هذه المعايير الكلاسيكية غير مناسبة للتطبيق على تجربة قانونها «التجريب» والحرية المزدوجة، ولكنها محاولة للحوار مع رواية قانونها الجدل مع الحياة ومع الفن معًا، وهى أيضًا دعوة لكى يشتبك كل قارئ مع الحكاية وأفكارها، مثلما تشاركها إدوار مع مى.

 

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات