خطابنا الدعوى إلى أين؟.. تمويل الخطاب - 
2: التمويل بالوقف - جمال قطب - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 11:03 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خطابنا الدعوى إلى أين؟.. تمويل الخطاب - 
2: التمويل بالوقف

نشر فى : الجمعة 29 مايو 2015 - 10:20 ص | آخر تحديث : الجمعة 29 مايو 2015 - 10:27 ص

 

ــ1ــ

الوقف هو مال محبوس مخصص لعمل خيرى. مال محبوس خرج من ملك جميع الناس، فلا هو ملكية خاصة يتدخل فيها الأشخاص، ولا هو ملكية عامة تتبع الدولة. بل هو «ملكية إلهية» يديرها مجلس أمناء يحظى بثقة عامة. ولا ولاية على أمناء الوقف أو ناظره إلا حق الحسبة لجميع الناس، ولا يقضى فى دعاوى حسبة الوقف غير القاضى نظرا لما يتمتع به القضاء – فى الشريعة والفقه ــ من هيبة واستقلال وحيدة تلزم الجميع القبول والاحترام.

وقد عرف المسلمون «نظرية الوقف» من مبادرة نبوية كريمة صنعها الرسول صلى الله عليه وسلم من بنفسه من ماله الخاص. فالقرآن يحدثنا أولا أن الله جل جلاله قد خصص لرسوله صلى الله عليه وسلم نسبة 20% من غنائم الدولة ينفقها كما يرى هو، حيث يقول: ((وَاعلَموا أَنَّما غَنِمتُم مِن شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّـهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسولِ وَلِذِي القُربى وَاليَتامى وَالمَساكينِ وَابنِ السَّبيلِ إِن كُنتُم آمَنتُم بِاللَّـهِ وَما أَنزَلنا عَلى عَبدِنا يَومَ الفُرقانِ يَومَ التَقَى الجَمعانِ وَاللَّـهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ)) فهذا نص قرآنى يخصص للرسول صلى الله عليه وسلم خمس الغنائم. كما أذن الله جل جلاله فى نص آخر يقول: ((وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)).

ــ2ــ

والفىء هو البلاد التى دخلت فى الإسلام طوعا دون أى عمل جهادى، فأصبح للرسول صلى الله عليه وسلم مخصصات ضخمة كبيرة له الحق فى التصرف فيها. هذه المخصصات جاءت إما من غنائم الحرب المفروضة على المسلمين، أو من الفىء الذى جاء طواعية بقدر من الله وقضائه، ولو متع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه بكل تلك الأموال ما عارضه أحد فهى حق خالص له، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بادر بأن يكتفى بنفقة زوجاته، وهو ما يقل عن 1% مما خصصه الله له، وأعلن وقف وحبس بقية ماله على نفقات ونثريات الدعوة حتى لا تتحمل الدعوة بنفقات تزيد وتنقص حسب إيرادات الدولة، وحسب أولويات رجال الدولة، وحسب الظروف السائدة. فكان ذلك مبادرة كريمة من النبى صلى الله عليه وسلم يعلم أمته كيف تصنع الخير، وكيف تضمن استمراره، وكيف ينعم المسلم بثواب دائم حتى بعد انتهاء أجله.

ــ3ــ

ومن أبرز أحكام فقه الوقف، قاعدة «شرط الواقف كحكم الشارع»، أى أن إدارة الوقف وتنمية واستعمال عائده مشروط بما شرطه صاحب الوقف. وشرط صاحب الوقف فى وقفه مثل شرط الشرع فى العبادة، لا يجوز تجاهله ولا تجاهله ولا تغييره... وهناك سنة نبوية أخرى مشهورة، هى «الصدقة الجارية» أى الصدقة الممتدة المفعول إلى ما بعد أجل فاعلها، تلك الصدقة التى نص عليها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ». واشتهرت السنة النبوية الثانية (الصدقة الجارية) بسبب جهل الأجيال بأهمية العمل الجماعى، وجهل الجماعات بضرورة الشفافية والحيادية استقطابا للآخرين وتجميعا للجهود، فاكتفى كثير من الناس بأن يضع مبرد ماء فى مكان، أو أن يساهم فى بناء مسجد..وكل هذا خير مقبول مرجو الثواب عند الله، لكن الوقف نموذج أعلى وأكبر، إذ يقوم على مال كثير غالبا ما يكون من الأصول الثابتة الأرض/ العقارات إلخ. وقد اعتبر الفقهاء الأوراق المالية (الأسهم والسندات) فى المشروعات الحيوية بمثابة الأصول الثابتة... لذلك فإن الطريق إلى خطاب دعوى محايد متخصص هو تمويله تمويلا كاملا من الوقف الخيرى، وحبذا لو ساهمت الدولة بنصيب فى الوقف بشرط أن يخرج من سلطاتها ويصبح تحت سلطة عقد الوقف أولا والقضاء النزيه ثانيا.

ــ4ــ

فمؤسسة الدعوة بجميع ما تقوم عليه، من جميع ما تحتاجه اليوم وغدا فى حاجة إلى قرار سيادى جرىء يكفل لها عوامل النزاهة والثقة بإنشاء وقف خيرى ضخم لمؤسسة الدعوة «الأزهر الشريف» يتفرغ المتخصصون لإدارته وتنميته واستخراج ثمراته لتمويل الأزهر تمويلا وقفيا محايدا يمكنه من الثقة فى نفسه، ويدفع الناس فى الداخل والخارج إلى الثقة فيه، والابتعاد عن الآراء الشاذة والأفكار الغامضة والدعاوى التى لا تقوم على سند من الشرع الحنيف.

ــ5ــ

ولا يظن أحد أن مشروع الوقف الخيرى ينتظر أثرياء يقدرون، بل إن الوقف فى زمننا – إذا توافرت النوايا الخالصة والشروط الشرعية ــ يمكن أن يبدأ من مساهمات حدها الأدنى «جنيه مصرى واحد»، وإن كانت البداية الصحيحة تنتظر قرارا سياديا بتفعيل النص الدستورى الخاص بالأزهر الشريف تفعيلا جادا وقاطعا للجدل، تفعيلا يجعل الأزهريين يستشعرون مسئوليتهم أمام الله ثم أمام الناس، ويجعل المواطنين يتسابقون للمساهمة فى مشروع الوقف المنتظر.

هذه هى السنن النبوية التى تهيئ الأمة وتجعلها ((خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَاسِ))، وهى سنن نبوية صحيحة كفيلة بإشاعة الأمن والسلام بين جميع عباد الله.

جمال قطب   رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف
التعليقات