يشهد تاريخ الولايات المتحدة أن غالبية الحروب الكبيرة والشاملة التى خاضتها فى القرنين العشرين والحادى والعشرين كانت بمشاركة حلفاء آخرين، أو على الأقل بدعم من حلفاء وأصدقاء كانوا يتبنون رواية واشنطن. لكن منذ أن أعلنت وزارة الحرب الأمريكية عن إطلاق عملية «الرمح الجنوبى» فى 14 نوفمبر 2025 ضد من تقول إنهم مهربو المخدرات من فنزويلا، لم تحظ واشنطن بأى دعم من حلفائها وأصدقائها، سواء فى أوروبا أم فى أمريكا اللاتينية والكاريبى، لهذه العملية، كما غابت كلمات التعاطف وخطابات الدعم من دول وقيادات ظلت على الدوام تدعم التحركات الأمريكية.
وتتباين الأسباب وراء هذا الفتور فى دعم الأهداف الأمريكية ضد نظام الرئيس الفنزويلى، نيكولاس مادورو، ما بين الخوف من دخول المنطقة فى سلسلة من الحروب التى لا تنتهى على غرار الحروب فى غزة وأفغانستان والعراق وفيتنام، وبين اعتقاد أصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها فى أوروبا وأمريكا اللاتينية والكاريبى بغياب الشرعية والأهداف الواضحة للعملية العسكرية التى ينفذها الجيش الأمريكى بالقرب من السواحل الفنزويلية، وبين من يرى أن واشنطن تبالغ فى ردها العسكرى على تهريب المخدرات من فنزويلا إلى الأراضى الأمريكية.
وفى هذا السياق، تُطرح التساؤلات حول قدرة واشنطن على تنفيذ كل أهدافها العسكرية ضد فنزويلا دون دعم أو مساندة سياسية ولوجستية من حلفائها وأصدقائها.
• • •
تحولت فنزويلا إلى عقدة استراتيجية ذات ثلاثة أبعاد بالنسبة للولايات المتحدة بسبب قضية المخدرات، والنفوذ الروسى والصينى، ودعم كاراكاس للحكومات الاشتراكية المناوئة لواشنطن. ويتبنى الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، «دبلوماسية القوة» فى التعاطى مع فنزويلا، فهذه الاستراتيجية تتراوح بين التلويح بالقوة والتهديد بالنهاية القريبة للرئيس مادورو، وبين «مواقف حذرة» تستبعد الحرب الشاملة.
وتتضح معالم استراتيجية «دبلوماسية القوة» فى حشد البنتاجون لعملية «الرمح الجنوبى»، وهو أكبر حشد فى منطقة الكاريبى منذ الغزو الأمريكى لهايتى فى عام 1994؛ حيث تتألف العملية من حشد عسكرى واسع يضم نحو 15 ألف جندى وما يقرب من 12 سفينة تابعة للبحرية الأمريكية، من بينها نشر حاملة الطائرات «يو إس إس جيرالد فورد» فى المنطقة، وهى أكبر حاملة طائرات فى العالم. كما أرسل البنتاجون طائرات «إف–35»، بجانب سفن عسكرية أخرى مدعومة بطرادات ومدمرات وسفن قيادة للدفاع الجوى والصاروخى، وسفن هجومية برمائية وغواصة هجومية فى جزيرة بورتوريكو، التى تحولت إلى مركز لعمليات الجيش الأمريكى فى الكاريبى.
وعلى الرغم من أن الهدف المُعلن للحملة العسكرية هو القضاء على مهربى المخدرات، لا يخفى البيت الأبيض سعيه لإسقاط نظام الرئيس مادورو، فى ظل سيناريوهات وخيارات عدة قدمها قادة البنتاجون للرئيس ترامب، تدور حول إمكانية شن ضربات جوية على منشآت عسكرية أو حكومية وطرق تهريب المخدرات، مع استهداف وحدات الحرس الفنزويلى وحقول النفط. وقد زاد البيت الأبيض خلال الأسابيع الأخيرة من ضغوطه السياسية والعسكرية على نظام مادورو بعد أن شنت الطائرات الأمريكية أكثر من 20 غارة أدت إلى مقتل نحو 83 شخصا كانوا على متن مراكب تُتهم بتهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة.
• • •
تتعدد الأسباب التى تجعل حلفاء الولايات المتحدة يتجنبون دعم عمليتها العسكرية ضد فنزويلا؛ حيث لم يُسجل دعم واضح من دول مثل الأرجنتين وتشيلى والبرازيل للخطوات التى يتخذها الجيش الأمريكى ضد من يصفهم بأنهم مهربو المخدرات. ومن شأن غياب الدعم السياسى، وعدم التنسيق الاستخباراتى واللوجستى بين واشنطن ودول جوار فنزويلا؛ أن يحد من فرص نجاح العملية العسكرية.
ويعود النأى بالنفس من جانب حلفاء الولايات المتحدة عن ضرباتها فى منطقة الكاريبى، إلى مجموعة من الأسباب، أبرزها الآتى:
1- الخوف من المستنقع: تخشى الدول فى أمريكا اللاتينية والكاريبى، وحتى خارج هذه المنطقة، من تحول أى عمل عسكرى أمريكى ضد فنزويلا إلى «مستنقع» وحرب طويلة تؤدى إلى تدفق ملايين اللاجئين، على غرار الحروب فى غزة وفيتنام، والحرب على الإرهاب التى استمرت نحو 20 عاما وطالت أفغانستان والعراق.
2- غياب الشرعية: لا يرى غالبية حلفاء الولايات المتحدة أن الهدف المُعلن؛ وهو مكافحة تهريب المخدرات، يستحق كل هذا الحشد العسكرى غير المسبوق. وعلى الرغم من تصريحات مديرة المخابرات الوطنية الأمريكية، تولسى غابارد، بأن واشنطن لن تسعى مجددا إلى إسقاط الأنظمة من الخارج أو التدخل فى شئون الدول؛ يرى الحلفاء أن خطط البيت الأبيض تشير إلى نية واضحة لإسقاط حكم مادورو.
3- الاستعداد للحوار: عبّر كثير من حلفاء الولايات المتحدة، خاصةً فى أمريكا اللاتينية والكاريبى، عن عدم دعمهم أى عملية عسكرية ضد فنزويلا بعد إبداء الرئيس مادورو أكثر من مرة استعداده للحوار «وجها لوجه» مع الرئيس ترامب، ومناشدة كاراكاس للبيت الأبيض الابتعاد عن الخيار العسكرى واللجوء إلى الخيار السياسى والدبلوماسى. وسبق لمادورو القول: «نعم للسلام لا للحرب، من يرغب فى الحوار سيجدنا دائما»، بل حاول أكثر من مرة استرضاء ترامب قائلا: «أصحاب نفوذ يضغطون على الرئيس ترامب حتى يرتكب أكبر خطأ فى حياته ويتدخل عسكريا فى فنزويلا، وسوف تكون هذه النهاية السياسية لقيادته».
4- كيان غير موجود: هناك تشكيك فى الكيانات التى تتهمها واشنطن بأنها وراء تهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة مثل «كارتيل دى لوس سوليس» التى تعنى «عصابة الشمس». وبعد أن قال وزير الخارجية الأمريكى، روبيو، إن بلاده ستصنف هذه العصابة كمنظمة إرهابية، ثم تصنيفها رسميا «تنظيما إرهابيا أجنبيا» فى 24 نوفمبر الجارى؛ ذكرت شبكة «سى. إن. إن» الإخبارية أنها ليست عصابة منظمة على غرار الكيانات الإجرامية فى أمريكا اللاتينية، وإنما شبكة لا مركزية من الجماعات الفنزويلية المرتبطة بتجارة المخدرات، لكنها تفتقر إلى التسلسل الهرمى ولا يمكن مقارنتها بالعصابات التقليدية التى سبق لواشنطن ودول فى أمريكا اللاتينية تصنيفها كمنظمات إرهابية. حتى إن البعض فى الولايات المتحدة قال إن «كارتيل دى لوس سوليس» اسم مختلق يُستخدم لوصف مجموعة مرتجلة من الفنزويليين المتورطين فى تهريب المخدرات، وفق ما قاله المدير المشارك لمركز إنسايت كرايم (InSight Crime)، جيريمى ماكديرموت.
5- معارضة اليسار: تقف الدول التى تحكمها أنظمة يسارية مثل كوبا ونيكاراغوا وبوليفيا، وكذلك الدول التى يحكمها يسار الوسط مثل البرازيل، ضد أى حرب بين الولايات المتحدة وفنزويلا. وترى هذه الأنظمة أن العملية العسكرية الأمريكية فى الكاريبى تستهدف كل الأنظمة اليسارية، وتحاول منع شعوب أمريكا اللاتينية والكاريبى من انتخاب اليساريين فى عدد من الدول التى ستشهد انتخابات خلال العام المقبل. وتعمل هذه الحكومات على بناء رأى عام ضد استراتيجية الرئيس ترامب تجاه فنزويلا؛ وهو ما يجعل النصف الجنوبى من نصف الكرة الأرضية الغربى يقف بكامله ضد نشوب حرب واسعة بين واشنطن وكاراكاس.
6- أسعار النفط: هناك تخوف من ارتفاع أسعار النفط عالميا حال نشوب حرب بين فنزويلا والولايات المتحدة. فبالرغم من أن فنزويلا تنتج حاليا مليون برميل نفط يوميا فقط؛ فإن نشوب حرب فى دولة لديها أكثر من 300 مليار برميل من احتياطى النفط سيشعل الأسعار العالمية؛ وهو ما يرفضه حلفاء واشنطن.
ختاما، يمكن القول إن التاريخ الطويل للعمليات العسكرية الأمريكية فى أمريكا اللاتينية والكاريبى، التى لم تحقق أى نوع من الاستقرار منذ الغزو الأمريكى لهايتى مرتين فى عامى 1925 و1994، وغزو بنما فى عام 1989؛ هو ما يقلق حلفاء واشنطن ويجعلهم ينأون بأنفسهم عن عملية «الرمح الجنوبى» ضد فنزويلا.
أيمن سمير
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
النص الأصلى:
https://tinyurl.com/m4tn9kzd