بيع وطن (لعظيم) - أميمة كمال - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 11:04 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بيع وطن (لعظيم)

نشر فى : الأحد 31 يناير 2010 - 9:26 ص | آخر تحديث : الأحد 31 يناير 2010 - 9:26 ص

 «بيع قصر لعظيم» ظل مثل هذا الإعلان فى صفحة الإعلانات المبوبة لسنوات لافتا ومحيرا لى، خاصة أنه فى بعض الأحيان يستخدم ذات النص عند الإعلان عن بيع فيللا أو عقار أو شقة، وأيضا يكون موجه «لعظيم». وكنت أتعجب فإذا كان القصر لا يسكنه سوى العظماء فماذا عن الشقق فهى بالتأكيد لا تليق بعظمتهم.

ولكن أدركت بعد ذلك أن العظماء فى هذا الزمن أصبحوا يفضلون العيش معا، فهم الآن لهم قصورهم، وأحياؤهم، ومدارسهم، وجامعاتهم، ونواديهم، ومولاتهم، وفنادقهم، وساحلهم أو إذا أردنا الدقة بحرهم، وغير مسموح لغير عظمتهم بالاقتراب. بل وأصبحوا من القوة بحيث يستطيعون إزاحة من لا يرغبون مزاحمته لهم.

ويبدو أن هذا المعنى هو الذى جعل حكم المحكمة الاقتصادية بمجلس الدولة، والذى نشرته جريدة الأهرام منذ أيام، ينص على عودة مطعم على النيل بالعجوزة إلى مرساه بعد أن سحبت المحافظة ترخيصه. ليس الحكم هو المعنى، ولكن السبب هو مربط الفرس. حيث إن الحكم جاء بسبب أن قرار سحب ترخيص المطعم صدر «تلبية لرغبات الكبار والعظماء» الذين يقطنون فى هذا المكان.

لم أكد أقرأ هذا الحكم إلا وتذكرت مشهدا استرجعته ذاكرتى على الفور من سنوات مضت. حين نشر الأستاذ إبراهيم حجازى فى جريدة الإهرام مقالا مطولا فى يوم جمعة، منتقدا الحكومة لأنها بنت منشآت دون ترخيص فى مركز شباب الجزيرة، مطالبا أن تصلح خطأها. وقبل ساعات من صلاة الجمعة كان قرارا قد صدر من د. كمال الجنزوى رئيس الوزراء، فى ذلك الوقت، بهدم المنشآت الهندسية التى بنيت دون ترخيص فى نفس اليوم. وقتها تحمست لتغطية هذا الحدث فى جريدة «أخبار اليوم»، حيث كنت أعمل فى ذلك الوقت. فقد استهوتنى فكرة أن أشهد حدثا تاريخيا وهو أن الحكومة تتعجل بتصحيح خطئها. والمدهش أنه فى يوم الجمعة. مع أنها كان يمكن أن تنام لليوم التالى تحت دعوى أن «الصباح رباح»، ولكنها لم تتحمل أن يغمض لها جفن وهى مخطئة فى حق المجتمع.

حملت نفسى سريعا إلى مركز شباب الجزيرة حتى لا يفوتنى هذا المشهد الجلل، وبالفعل كان كذلك. وصلت إلى هناك بعد أن كان بلدوزر الحكومة قد سبقنى، ووقف متأهبا أمام حمام السباحة الجديد الذى كان يبدو أنه فى مرحلة التشطيب، بل وأوشك على الانتهاء تماما.

وعلى الجانب الآخر كان شباب وأطفال من أعضاء المركز يصعدون فى قفزات متوالية ليحتلوا سطح حمام السباحة. الذى كان مبنيا على ارتفاع كبير من الأرض يجعله فى مرمى البصر من نادى الجزيرة الملاصق للمركز، والذى يجمعهما سور واحد.

احتل المئات منهم الحمام تتقدمهم مدربة السباحة الشابة وقد تلاصقت أجسادهم الصغيرة معلنين موقفا لا رجعة عنه، وهو أن البلدوزر لن يهدم الحمام إلا على أجسادهم.

وقفت وأنا لا أكاد أصدق نفسى لما أسمعه منهم، فقد بدأت مدربتهم تتحدث وهى تبكى بحرقة عن أحلام هؤلاء الصغار، وكيف كانوا يستعجلون الأيام لكى تمر أملا فى تحقيق حلمهم. بالتأكيد لو عرف المسئولون الذين أصدروا أمرا بهدم حمام السباحة وهم فى مكاتبهم كم يعنى هذا بالنسبة لهؤلاء الشباب لما فعلوا على الإطلاق، قالتها المدربة وراحت تلحق بالشباب على سطح الحمام.

وقبل أن تفرغ المدربة من حديثها كان شاب قد قفز من أعلى الحمام للأرض صارخا لماذا لا تقولون الحقيقة، وهى أن أعضاء نادى الجزيرة لا يرغبون أن يروا أمثالنا، لا يطيقون أن ننظر إليهم من أعلى حمام السباحة. لا يودون أن يتبادلوا معنا حتى النظرات مجرد النظرة. لا يريدون أن يكون من بيننا أبطال سباحة ينافسون أولادهم أو حتى أن نقف رأسا برأس معهم.

وأزاحة شاب آخر كانت هيئته الاجتماعية تشرح أكثر كثيرا مما قاله حول أن أهاليهم يدفعون لهم عشرة جنيهات فى السنة اشتراكا فى هذا المركز، يتعلمون بها ويتدربون على كرة القدم، والسلة، وكرة اليد، والسباحة ويخرج منهم أبطال رياضيون بدلا من أن يقضون أوقاتهم فى الشوارع وعلى النواصى. ليه مستكترين علينا؟ حتى الحمام؟ عند هذا السؤال لم يتمالك الشاب نفسه وأنهار باكيا بصوت مسموع، وجرى مسرعا صوب حمام السباحة.

وما أن سمعت صوت البلدوزر وهو يتحرك جديا صوب الحمام حتى رحت مسرعة حتى ألحق بهؤلاء الرابضين فوقه، وأنا أقول فى سرى أكيد البلدوزر سيكون أحن على هؤلاء من جيرانهم. وقبل أن أصل سمعت المدربة وهى تصرخ فى الميكرفون طالبة من الشباب والأطفال أن يخلوا الحمام لأنه لم يعد بديلا عن الهدم. وعندما نظرت لها غير مصدقة دعوتها السريعة للاستسلام قالت: «إن شاء الله يبنون حماما آخر بعيدا عن السور».

وبقية المشهد هو ما جعلنى الآن لن أستغرب حتى إذا قرأت إعلانا عن «بيع وطن لعظيم».

أميمة كمال كاتبة صحفية
التعليقات