تظل القضية الفلسطينية تشغل حيزا كبيرا من بال العالم، وتتصدر المشهد السياسي والإنساني العالمي بقوة غير مسبوقة مع دخول آلة الحرب الإسرائيلية ما يقترب من العامين من التدمير، والتجويع، والقتل.
تخللت تلك المدة بعض اتفاقيات وقف إطلاق النار المؤقت بقطاع غزة، ولكن ما تلبث أن تعود الحرب والدمار بيد جيش الاحتلال الإسرائيلي مصيبا الأطفال والشيوخ والنساء، وهادما لكل أشكال الحياة في القطاع، مع خطة الإبادة الجماعية والتجويع الممنهج الذي تنتهجه دولة الاحتلال، والتخطيط أيضا لاحتلال القطاع عسكريا.
وتستمر المحاولات والوساطات سواء بالشراكة بين مصر وقطر، مع بعض المحاولات الأمريكية غير العادلة من مبعوث الرئيس ترامب لشرق الأوسط ستيف ويتكوف، أو المطالبات الدولية من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ودوله التي بدأت في استخدام الاعتراف بدولة فلسطينية كورقة ضغط لوقف الحرب.
ولابد دائما لمحاولة فهم ما يحدث في أراضي فلسطين المحتلة، وما الذي أوصل الأمر لما حدث في السابع من أكتوبر عام 2023، مرورا بما يحدث على مدار تلك الأشهر الطويلة المليئة بالدماء.
نحن هنا أمام نكبة ثانية لا تقل خطورة عن النكبة الأولى، وربما علينا حتى الرجوع لما وراء النكبة نفسها إلى بداية هذا الصراع المرير، إلى الوعد المشؤوم وعد بلفور، أو وعد من لا يملك لمن لا يستحق؛ لنحاول فهم الصورة بشكل أكثر وضوحا.
أحد أهم الكتب التي تناولت وعد بلفور، وأسبابه وحيثيات إصداره، هو كتاب "صك المؤامرة"، والذي كتب بالتشارك بين الكاتب جميل عطية، والكاتب الصحفي صلاح عيسى، يتناول الكتاب قصة وعد بلفور منذ بداياته، وحتى أصبح حقيقة فعلية.
يبحث الكتاب بطريقة سردية سلسة عن الظروف التي أحاطت الوعد الذي ساهم بعد سنوات في إنشاء دولة الاحتلال، عبر شهادات أربع شخصيات كانت حاضرة بقوة في الأحداث، وهم: هنري مكماهون المعتمد السامي البريطاني في مصر، حاييم وايزمن الرئيس الأول لدولة الاحتلال وأحد أهم المساهمين في صدور الوعد المشؤوم، إدوين صموئيل مونتاجو الوزير اليهودي في الحكومة البريطانية الذي عارض صدور الوعد ورفضه رفضا شديدا، وأخيرا الشريف حسين بن علي ملك الحجاز.
الكتاب به حس إبداعي عبر توظيف الوثائق والأحداث في قالب سردي روائي في شكل شهادات تدلي بها الشخصيات، وأعطى هذا القالب الكتاب حيوية كبيرة، الكتاب مهم في خضم الأحداث الراهنة والمستمرة لفهم ما حدث، وفهم ما يمكن أن يحدث.
الفصل الأول هو الفصل الخاص بهنري مكماهون المعتمد السامي البريطاني في مصر في بداية الحرب العالمية الأولى، والذي قام بالمراسلات الشهيرة مع ملك الحجاز الشريف حسين بن علي في أثناء الحرب، والتي طالب فيها الشريف حسين بإقامة دولة عربية كبرى تحظى بتأييد الممكلة المتحدة في مقابل ثورة عربية كبرى على الدولة العثمانية المتنرحة في ذلك الوقت، وهي الفرصة التي وجدتها بريطانيا سانحة لكي تستغل ذلك الطموح العربي لصالحها لتفرض سلطتها على المنطقة، وتضرب مسمارا جديدا في نعش الإمبراطورية العثمانية، وهذا الفصل مهم في فهم الوضع في خضم الحرب العالمية الأولى، وفهم الوضع في بلاد العرب.
الفصل الثاني هو الفصل الأكبر الخاص بحاييم وايزمن الرئيس الأول لدولة الاحتلال الإسرائيلي وأحد أهم المساهمين في صدور الوعد المشؤوم، والذي يسرد على لسانه وقائع بداية فكرة الوطن اليهودي مع فيدور هرتلز، ثم تصميم وايزمن والفريق الخاص به على أرض فلسطين تحديدا، وكيف واجه الانقسامات في المنظمة الصهيونية بعد وفاة هرتلز، وكيف تكونت صداقته ببفلفور منذ كان رئيسا للوزراء، وحتى الوعد.
الفصل الثالث هو فصل إدوين صموئيل مونتاجو الوزير اليهودي في الحكومة البريطانية، الذي عارض صدور الوعد ورفضه رفضا شديدا، والذي كان يؤيد أن يندمج اليهود في مجتمعاتهم بدلا من أن يكونوا وطنا لهم، وقد حاول منع ضظوؤ الوعد، ولكنه لم ينجح في ذلك في النهاية.
الفصل الأخير هو الأكثر شاعرية وأدبية وهو فصل الشريف حسين بن علي ملك الحجاز، والذي أراد أن يكون دولة عربية كبرى تضم فلسطين، وتحظى بالتأييد البريطاني، ولكنه في النهاية حظى بطل خيانة من الإنجليز، حتى وصل الأمر لنفيه خارج البلاد العربية كلها.
إن كتاب "صك المؤامرة" هو وثيقة تأريخية وتوثيقية هامة للغاية تستشف كيف بدأ الصراع العربي الإسرائيلي، وكيف قامت الدولة الصهيونية من بداية الظفر بوعد بلفور، وحتى قيامها، وكيف كان العالم في خضم إصدار ذلك الوعد المشؤوم، وحيثيات صدوره، ولماذا زرع الغرب وبريطانيا الدولة الإسرائيلية في الشرق الأوسط بين البلاد العربية، الكتاب هو محاولة لفهم كيف وصلنا إلى هنا.