أخطأ من فوجئ بالخروج الأمريكى من أفغانستان، وإن كان من حق الجميع الاستغراب من عدم الانضباط الذى شهد الإجراءات الخاصة بترحيل مواطنيها، والتعامل غير الإنسانى الذى تعرض له أصدقاء أمريكا من الأفغان المهددين بمستقبل مظلم وسلامة أرواحهم.
يتساءل بعضهم كيف تخرج الولايات المتحدة من أفغانستان بعد أن أنفقت أكثر من تريليون دولار وفقدت أرواح الآلاف من جنودها؟ ويتساءل آخرون كيف تصل واشنطن إلى اتفاق مع طالبان بكل ما يمثله هذا التنظيم من رؤى وصفات وممارسات بعيدة كل البعد عن المبادئ التى تحكم الحياة المعاصرة فى الولايات المتحدة والعالم الغربى.
تساؤلات فى محلها، ولكن ليس هناك مكان أو مبرر للمفاجأة أو الاستغراب، ويكفى الرجوع إلى مقولة «الصورة بألف كلمة» وأوجه التشابه بل التطابق بين أحداث كابول 2021 ومغادرة سايجون الولايات المتحدة عام 1975، كان ذلك فى تحليق الطائرة المروحية العسكرية فوق السفارة، ومشاهد إقلاع الطائرات الأمريكية من مطار كابول محملة بالركاب حتى على أجنحتها، وهو نفسه ما شهدناه فى فيتنام قبل ذلك بنصف قرن.
لا يستبعد أن يكون القرار الأمريكى فى إطار تحرك استراتيجى يشمل صراع القوى الكبرى، بخاصة فى ظل التركيز على آسيا ومواجهة وإشغال الصين الصاعد بقوة وبسرعة، وعلى المدى المتوسط هناك اعتبارات محددة تحكم تحرك أمريكا وسياساتها بصرف النظر عن الانتماء الحزبى لرئيسها أو الأغلبية فى الكونجرس، وظلت كذلك ولم تتغير ولم تحد عنها منذ بروز دورها عقب الحرب العالمية الثانية.
أول تلك الاعتبارات هو تقدير حجم المكسب أو الخسارة من أى قرار، وكان ذلك بدخول أى ساحة أو البقاء فيها أو الخروج منها، وكما أكرر دائما السياسة الخارجية الأمريكية تحكمها المبادئ والأهداف نفسها التى تحكم السياسة الاقتصادية للولايات المتحدة، وهو اقتصاد السوق. قد يتساءل البعض كيف تهدر واشنطن كل ما استثمرته أو أنفقته فى أفغانستان بالخروج من الساحة، والإجابة فى فهم النظام السياسى الأمريكى وتحديدا الانتخابى المتعدد والمتكرر على مستويات مختلفة، رئاسيا كل أربع سنوات بحد أقصى دورتين، وبرلمانيا على فترات أقصر تصل إلى عامين، وكذلك على مستوى المحليات. هو نظام يفرض على السياسيين النظر لأغلب القضايا بمنظور مستقبلى قصير الأجل، بعيدا عن أحداث الماضى وقراراته، ويعنى هذا بإيجاز شديد أن قرار بايدن المنتمى للحزب الديمقراطى بالانسحاب من أفغانستان الآن على الرغم من ضخامة الكلفة السابقة، جاء لرغبته فى عدم تحمل مزيد من الإنفاق المادى أو الخسائر الإنسانية، بصرف النظر عن سلامة قرار التدخل فيها من عدمه بالأساس، الذى اتخذه جورج بوش الابن، ويطبق بايدن فى ذلك مبادئ اقتصادية مادية، ومقولة عدم إهدار مزيد من المال على مشروع فاشل، وغرضه من تلك الخطوة الحد من الخسائر المستقبلية، وهو نفسه ما فعله رئيس أمريكى جمهورى فى فيتنام.
وغنى عن القول إن الفوضى وعدم الانضباط فى عمليات الخروج من كابول ترك انطباعا سيئا عن صورة الولايات المتحدة وأداء الإدارة الحالية، فى ما يتعلق بخروج الدبلوماسيين الأمريكيين والأجانب ومؤيديها من الأفغان، فضلا عن تسليم البلاد لـ«طالبان» التى تتضمن قيادات كانت فى السجن الأمريكى فى جوانتانامو، ومع هذا خرج الرئيس بايدن معلنا وبقوة أنه متمسك بقرار الخروج باعتباره فى مصلحة بلاده، وتحدث كذلك لعلمه أن المجتمع الأمريكى مرهق سيكولوجيا من استمرار المواجهات العسكرية الممتدة، بخاصة مع صعوبة إيضاح الخطر المباشر على بلاده أو المصلحة فى البقاء واستمرار الإنفاق.
وتحدث بايدن كذلك لاقتناعه أن بلاده ستتجاوز التداعيات قصيرة الأجل على سمعتها من هذا القرار، وأن المجتمع الدولى لن يستطيع مقاطعة أمريكا أو الاستغناء عنها، أسوة بما تم بعد فيتنام القرن الماضى وغزو العراق أخيرا.
وشخصيا لا أتفهم تساؤلاتنا عن السياسات الأمريكية، وعلى الرغم من أن الاعتبارات التى تحكمها واضحة، وهى المصلحة الوطنية والمادية قصيرة الأجل اليوم وغدا، فى حين أن السؤال الأوقع والأهم هو موقف الدول الصديقة وغيرها إزاء تلك السياسات بكل ما تحمله من خطيئة، فإن تساؤلنا يجب أن ينصب على ردود أفعالنا وسياساتها إزاء هذا الثبات فى المواقف والخطيئة الأمريكية.
لا أشك فى قوة الولايات المتحدة وغناها، وهو ما سيجعل كثيرا من الدول تتجاوز تلك الأحداث وتظل تسعى إلى علاقات قوية معها، وهو ما فعلته بعد أحداث فيتنام والعراق، وسبق أن وصفت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت بلادها بأنها قوة لا غنى عنها، وإنما بات واضحا مرة أخرى من الأحداث الأخيرة أن القوة والثروة وقوة التحمل لها حدود، وأن الخطأ بل الصحبة لها ثمن.
ومن الدروس المستفادة والمهمة التى يجب أن يخرج بها المجتمع الدولى من الأحداث الأخيرة هى أنه مع أهمية الولايات المتحدة فإنه من الخطأ الاعتماد عليها أكثر من اللازم، لأنها لن تتردد فى اتخاذ قرارات على حساب مصالح غيرها بمن فيهم الأصدقاء والحلفاء إذا لزم الأمر، إذا إدارة التعاون مع أمريكا واجبة، إنما الاعتماد المبالغ فيه عليها خطأ، وأرى أن التفاعل الوطنى والإقليمى أفضل سبيل على المديين المتوسط والطويل، لأنه يستجيب ويتفاعل مع الواقع المباشر على الأرض، وقدرات وطموحات مباشرة فى ساحتنا المشتركة يمكن تقديرها والتفاعل معها بشكل أفضل.
من ناحية أخرى، وبعد غزو العراق وأفغانستان وغير ذلك من الاشتباكات العسكرية المكلفة وغير الناجحة، على الولايات المتحدة اليقين أن صراع القوى الكبرى فى إطار نظريات استراتيجية شىء، والتعامل مع الواقع الوطنى والهوية المجتمعية للدول عبر العالم شىء آخر، وعليها الاستفادة من أخطاء غرور القوة والثراء المبالغ فيه، وقراءة الساحات الوطنية والإقليمية قبل الاشتباك فيها، والتهور فى عمليات عسكرية تحمل فى طياتها خسائر كبيرة، بل عليها بحث ومراجعة السبل المختلفة لتحقيق أهدافها فى ساحات مختلفة، فالتفوق فى معارك لا يعنى بالضرورة الانتصار فى الحروب، والأعمال العسكرية لا تحسم كل القضايا، أو تحقق كل الأهداف، خصوصا مع توافر أدوات تحفيزية عدة لها، إذا كانت أكثر احتراما وتقديرا لمصالح الغير، وتسعى إلى الوسطية والاعتدال الأمنى والاستقرار الدولى.
نقلا عن إندبندنت عربية