أنا المصرى كريم العنصرين - هدى زكريا - بوابة الشروق
الإثنين 10 نوفمبر 2025 11:44 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من يفوز بالسوبر المصري؟

أنا المصرى كريم العنصرين

نشر فى : الأحد 1 مارس 2009 - 5:43 م | آخر تحديث : الأحد 1 مارس 2009 - 5:43 م

 البقاء والاستمرار هو غاية جميع الجماعات الإنسانية التى أدركت أن الفرد يموت مهما طال عمره، أما الجماعة فتبقى إن استطاعت المحافظة على شروط استمرارها وذلك بأن تعيد إنتاج نفسها وتدافع عن سلامتها وتفيد من تجاربها. والجماعة المصرية لم تكتف فقط بحلم البقاء والاستمرار، وإنما صار الخلود هو هدفها الأسمى الذى ترسخ فى وعيها الجمعى منذ استقرت الحياة بها على ضفاف النهر الخالد.

وتكمن عبقرية الجماعة المصرية فى قدرتها على تحقيق الاستقرار أثناء مواجهتها للخطر الذى صاحبها على طول تاريخها، فكان استمرارها هو «الجهاد الأكبر» الذى هزم أعتى الجيوش التى نجحت فى غزو مصر عسكريا، لكنها انهزمت أمامها «ثقافيا» بعد أن قبض المصريون على مفتاح العروة الوثقى، وهو ثقافتهم الغنية بما تضمنته من عناصر صلبة صارت مع الزمن حصنا منيعا ضد الاختراق والتفكيك.

فكان الدين هو أهم العناصر الفاعلة فى الثقافة المصرية وبقدر ما يمثل من أهمية فى صياغة النسق القيمى للمجتمع بقدر ما كانت أشد العقائد الدينية تباينا تتقبل بتسامح لم يكن له نظير فى غيرها من البلاد، فكان تعدد الأديان والعقائد هو الذى يجُب التعصب الدينى، وصار التسامح سمة ثقافية مصرية..

وسجل التاريخ لمصر رفضها الانقسام والتشيع على أرضية دينية وتميزت بقدرتها على جذب الأديان السماوية على خريطتها المتفردة فكانت الثقافة المصرية تستلهم شعلة الإيمان البازغة من كل دين سماوى ليقوم الضمير الجمعى المصرى بتشكيله وفقا لخصوصيته الثقافية، يؤكد ذلك احتضان مصر للمسيحية التى صارت رمزا وتعبيرا عن قومية مصرية سجلها عصر الشهداء الذين سالت دماؤهم لتدق أول «مسامير» فى نعش الإمبراطورية الرومانية، وصار نظام الرهبنة أهم أسلحة المقاومة الوطنية، كما اتخذت مصر من الدين الإسلامى بعد الفتح الذى حررها من عسف الأباطرة رمزا لجهادها ضد التتار، ثم الفرنجة الذين أذهلهم بنظرة التعصب الدينى الضيقة انتظام مسيحيى مصر فى جيش صلاح الدين الأيوبى. كما ذهل اللورد كرومر من عداء مسيحيى مصر للمحتل الذى يماثلهم فى العقيدة، وقد لخص الزعيم مكرم عبيد فى عبارته البليغة «أنا مسيحى الديانة مسلم الثقافة» موقفا ثقافيا عبرت عنه الأحداث التالية:

1ــ فى مولد سيد شباب الجنة الحسين رضى الله عنه وأرضاه يغنى المنشدون من رجال الطرق الصوفية، وهم يتمايلون مع الأذكار الروحية..

هنيئا لأهل الدير فى حضرة القدس
بشمس جلت أنوارها ظلمة الرمس
تجلت عن الأشباه وهى فريدة
وليست بشكل فى الفروع وفى الجنس

وهى أنشودة طويلة من أشعار ابن الفارض، التى تشيد بشمس الهداية التى تغمر الدير بنورها القدسى، يغنيها المسلمون فى أضرحة أولياء الله الصالحين ليقدموا دروس التدين الحقيقى لمن يتشدقون بكلمات التسامح وقبول الآخر.

2ــ عندما يقص المصرى المسلم رؤياه قائلا: رأيت فى منامى جارى المسيحى ويطلب تفسيرا يرد السامعين: الله أكبر.. لك البشرى والخير العظيم، فالنصرانى فى حلم المسلم نصرة كبرى وكذلك الكنيسة والقساوسة والصليب.. وكل ما هو رمز مسيحى يتم تفسير كل هذه الرموز باعتبارها البشرى للفتح العظيم والمكانة المرموقة.

3ــ فى جنازة الزعيم ويصا واصف ــ الذى ناضل من أجل مصر كتفا بكتف مع الزعيم سعد زغلول ــ هتفت الجماهير المسلمة وهى تودع بطلها الذى حظى بشعبية جارفة «اشك الظلم لسعد يا ويصا»!. وذلك لأن الزعيم سعد كان قد سبق رفيق نضاله إلى رحاب الله عام 1927، وكانت، وقد اعتاد المصريون أن يتواصلوا روحيا مع موتاهم بإبلاغ رسائلهم إليهم من خلال المتوفى حديثا من الأحبة، فكان هذا الهتاف رسالة جماعية تحمل زفرة المعاناة الثائرة لتودعها فى شكل أمانة يحملها «ويصا» إلى «سعد»، ويكشف تحليل مضمون هذا الهتاف أن الجماهير المسلمة التى هتفت بهذه الكلمات كانت تؤمن فى أعماقها بأن الزعيمين، وقد استشهدا فى سبيل الوطن الواحد، فمن الطبيعى أن يكون مثواهما الجنة التى ادخرها الله للشهداء والقديسين، فهل كان من الممكن أن تتصور الجموع المسلمة فى تلك الجنازة أن يذهب سعد إلى الجنة لكونه مسلما ولا يصحبه ويصا لأنه مسيحى؟

لقد سجلت الجماهير فى تعبيرها التلقائى عمق إيمانها المستنير بالوعى بأحقية أبناء الوطن المخلصين فى جنة الله على اختلاف توجهاتهم الدينية، وإلا فكيف كان ويصا سيسلم رسالة الجماهير إلى زعيم الأمة إن لم يكونا معا فى الآخرة كما كانا معا فى الدنيا؟.

4ــ استسلم العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ لنوم قلق على سريره الأبيض بالعاصمة البريطانية، بعد أن أعلنه الطبيب الإنجليزى بخطورة حالته الصحية فى عام 1956 فزارته فى منامه سيدة ذات ملامح ملائكية، ترتدى البياض ويحف بوجهها النور ومدت إليه يديها تساعده على النهوض من رقاده قائلة: قم يا عبدالحليم فقد شفاك الله، فناداها مبهورا من أنت يا سيدتى؟! فردت أنا سانت تريزا!..

وعندما استيقظ من نومه شعر بالعافية تدب فى أوصاله، وجاء الطبيب ليفحصه فى الصباح ليتهلل وجهه فرحا وهو يعترف له بأن ثمة شفاء معجز قد تحقق لمريضه من حيث لا يدرى ولا يقدر على تفسيره إكلينيكيا.. وقفز العندليب إلى المطار ليعود إلى وطنه ويبدأ بعد أن لمست قدماه أرض الوطن فى الاتجاه مباشرة إلى ضريح القديسة تريزا بشبرا ليهديها أثمن اللوحات الرخامية مسجلا على سطحها امتنانه وشكره لما غمرته به القديسة من حب وبركة.

التعليقات