رفضوا البقشيش.. فترنَّح القيصر - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 1:02 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رفضوا البقشيش.. فترنَّح القيصر

نشر فى : الأربعاء 1 أبريل 2009 - 7:32 م | آخر تحديث : الأربعاء 1 أبريل 2009 - 7:32 م

 بعد أن عدنا من الإسماعيلية قرب الغروب، رفض سائق السيارة أن يأخذ بقشيشا. وقال وهو يرد يدى بتأثر: «لا والله.. لا والله.. كفاية متعة النهارده».

وقرأت فى ملامحه تساميا عجيبا، فأدركت أن شيئا مدهشا انتعش فى روح الرجل، خلال هذا النهار الذى استضافنا فيه الشاعر، فى ظلال بيته ناصع البياض قرب الضفة الغربية للقناة، وحيث كان معظم حديثنا عن الشعر، وعن الغناء.

ساحر هو الأبنودى عندما تصفو له، ويصفو لك.. وأنا كنت مهيأ سلفا لهذا الصفاء، بإعادة اكتشاف الأبنودى لنفسى، ليس فقط الأبنودى الشاعر الكبير، ولكن أيضا الأبنودى الباحث.

الذى لم أسمع محاضرة فى الشعر أجمل من محاضرته عن السيرة الهلالية فى إحدى الندوات، والأبنودى الحكاء البارع، والأبنودى الذى عندما يحب، يغدو وترا من ريحان وندى.

يأتينى صوت الأبنودى الضاحك فى الهاتف وهو يدعونى لزيارته «أصل ربنا ما يرضاش بالظلم»، وكان ظلما حقيقيا لنفسى أن أتأخر عن الطيران إليه لعدة صباحات مضت، بينما كنت فى المساءات أحلّق معه، بل يحلق معه بيتى كله.

ونحن نشاهد كل هذا الحب الذى يفيض، ويشع، ويرفرف، عبر الدقائق الخاطفة لبعض من سيرته التى يحكيها بحب، لزوجته المحبة، السيدة نهال كمال، فى «أيامنا الحلوة»، عن سحر أيام صباه فى الصعيد.

لا يعرف الشاعر أننى أوظفه ضمن المكونات النادرة لدرع جميلة أواجه بها فظاظة الشارع المصرى الآن، فعلى شريحة هاتفى النقال عشرات من أغانى الزمن الجميل، ومن أقربها لنفسى، هذه التى كتبها الأبنودى وغناها عبدالحليم، أوصلها لسمعى عبر سماعات الأذن، فأعيش فى عالم موازٍ من رهافة الحس وصفاء النشوة.

مسيرة الأبنودى الشعرية معركة جمالية طويلة، خاضها بذكاء خارق، ومهارة إنسانية عالية، بصلابة صعيدى ومكر فنان، ضد التشنج العقائدى، وضد غباوة السلطات «طلعت من السجن على الإذاعة مارحتش بيتى»، يقول الأبنودى.

فيكشف عن أن بيته الحقيقى كان هو الغناء شعرا، وهو بعض من الظل الجميل القليل، الذى نلوذ به من هجير وحوشية العالم الآن، فيصون سلامة الروح من فجاجة الزعيق وعطب الانغلاق وبؤس التردى.

الغناء هو رفيف الروح محمولا على زفير أنفاسنا، زفير طويل جميل، يتمايز عن الزفير الذى يطلق صرخات الألم، وهتافات السياسة، وصيحات الرعب، فكلها زفير، لكن زفير الغناء وحده يهدى الروح أجمل وأفعل أطايبها. ولعل تعب رئتىّ الأبنودى هو بعض من إجهاد إطلاق كل هذا الزفير الطويل الجميل، كل هذا الغناء.

يأخذنى الأبنودى ليعرفنى بأقاربه وأحبابه الذين يعيشون من حوله فى هذا البيت، شجرة المانجو التى طعّمها بفرع من نوع زكى الرائحة يوشك أن يغيب، والنخيل الذى يطرح دون أن يتعالى، والتوتة التى رآها بعيدة عن آية ونور، فأخذ منها ليزرع لهما واحدة قريبة.

يربت على جذع شجرة كأنه يعلن رضا الخال عن يفاعة ابن أخته، ويتحسس فرع نبقة باحثا عن برعمها الذى تأخر فى الظهور، معاتبا بجد «لا لا لا»، وعندما تتلمس أنامله البرعم البازغ، يتهلل وجهه كأب اطمأن على حيوية طفله.

نهار من الشعر والخضرة وحلاوة الروح مع الأبنودى، طبيعى أن يجعل السائق يرفض البقشيش الذى لم يرفضه من قبل وهو يوصلنى لأماكن مختلفة.

لمحة مفاجئة نقلتنى عبر الزمن إلى وقفة من وقفات شباب البحث عن طريق، عندما استقر فى يقينى أن الثورة الروسية الحمراء عام 1917 كانت اختطافا فظا لثورة أرقى سبقتها، وهى ثورة الخبز عام 1905، والتى لخصتها ذاكرتى فى ملمح واحد، عندما أجمع الجرسونات فى روسيا على رفض البقشيش؛ اعتزازا بكرامتهم الإنسانية، برغم الفقر والجوع الذى كان يسحقهم حينها. وكان رفضهم فى رأيى هو الزلزلة التى جعلت القيصرية الفاسدة تترنح وينقصها لمسة لتهوى.

أفكر فى تلك الثورة البشرية البعيدة المخطوفة، والتى لابد وصلت بأرواح الفقراء إلى هذا المُرتقى العالى من الكبرياء والرهافة، عبر ترانيم الروح الراغبة فى الخلاص، والتى شدت بها إبداعات الروس العظام فى القصة والرواية والمسرحية والشعر والموسيقى.

وحتما فى الغناء. ماذا لو أنها واصلت خط صعودها الراقى دون اختطاف؟ ربما كانت تُنجز ثورة تحرص على كرامة الإنسان الفرد بقدر حرصها على إنجاز تقدم المجتمع، فلا يحدث هذا الانهيار المتهافت، الذى قضى على مسيرة سبعين عاما فى بضعة أيام من التفاهة والنزق الرخيص على يد الرخو جورباتشوف، والسكير يلتسن.

لا شىء يحافظ على كرامة الإنسان الفرد أكثر من استيقاظ روح هذا الإنسان نفسه فى أفق من الجمال، جمال يذكره دوما بجمال الحب فى قلبه، وجمال التآخى الإنسانى، وجمال البكارة فى الطبيعة، جمال العدل الذى لا ينفصل أبدا عن الحرية، أو الحرية التى لا تتنازل أبدا عن العدل.

إنها معانٍ لم تغب أبدا عن مُنجَز شعر العامية العظيم وفرسانه الكبار فى مصر، وهى معانٍ ظلت حاضرة فى كل مسيرة الأبنودى الشعرية، والإنسانية، ولابد أنها كانت حاضرة فى ذلك النهار الجميل، لتجعل إنسانا مصريا بسيطا فى هذا الزمن الصعب يرفض البقشيش، ويرفضه بكبرياء مرهف، وود صادق.

متى يرفض الجميع البقشيش، أى بقشيش، ويرفضون الاختطاف، كل ألوان الاختطاف؟

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .