القاهرة - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 7:07 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القاهرة

نشر فى : السبت 2 مايو 2009 - 6:32 م | آخر تحديث : السبت 2 مايو 2009 - 6:33 م

الزحام كيوم الساعة. الناس تتدافع بكل ما أوتى لها من بأس، وهى تصيح منتشية بقرب اقترابها من بوابة الجنة. الجنود منتشرة فى الشارع، على وجوههم علامات القسوة. اقتربت بوجل أنا وأبنائى ومشاعر انقباض من رؤية كل هذا العسكر تضغط على أعصابنا. بدأ ابنى فى العدو وطلب من عائلتنا الصغيرة أن تحذو حذوه كى نلحق بالبوابة قبل أن تغلق تماما. وعندما بدأنا نشد الخطى وجدنا جموعا من الشباب يعدون فى الاتجاه المعاكس، ضرب أحد المتدافعين كتفى دون أن يلحظ أثناء هرولته هو وعدد من زملائه. وصلنا أخيرا إلى الطريق المؤدى إلى البوابة. لم يكن رضوان هو الحارس هذه الليلة، وإنما جحافل من عسكر يرأسهم عدد من اللواءات وقد وقفوا خلف سور من الجند، يمسك كل واحد منهم بيد الآخر ليشكلوا ترسا متماسكا لمنع أى اختراق لمن تسول له نفسه أن يقتحم الطريق إلى الجنة. وبدأوا يطلقون صيحات متكررة بنغم موسيقى بائس: ها.. ها.. ها.

كان أمام الترس البشرى الميرى جحافل من بشر يحملون أعلام مصر ويهتفون بالنصر القريب. حاولنا الاقتراب من أحد اللواءات للتفاوض معه. لكن منعنا التدافع المجنون والعنيف للجماهير المتعطشة للفوز العظيم بالدخول فى الحضرة، وأمام عدم قدرتنا فى الاقتراب من صف الجنود، بدأنا فى التحاور مع من التصق بنا وسط العجينة البشرية التى أصبحنا جزءا منها: ماذا تظن.. هل سوف يفتحون لنا الطريق؟.. الله وحده يعلم. هل حضرت سيارة النادى الأهلى؟.. لم تصل بعد، ولكن وصلت منذ خمس دقائق سيارة الضيوف الأفارقة الذين سوف يتم افتراسهم الليلة. فجأة صرخ أحدهم: يا باشا أنا دافع فى التذاكر دى خمسمائة جنيه.. الله يخرب بيوتكم العامرة. وهنا بدأت الجماهير فى الصراخ، وقد رفع كل منهم عاليا تذكرته التى اشتراها بعشرات الجنيهات كى يراها الباشا. استطعت مع أبنائى بصعوبات بالغة الاقتراب من أحد اللواءات. حاولت إقناعه بالسماح لنا بالمرور ولكنه رفض وابتعد عنا فى العمق الخالى. أخرج ضابط شاب متمترس خلف جنوده، تبدو على محياه علامات عز غابر، ساندويتشا وبدأ يأكله فى صمت. تحركت أذن العسكرى الواقف أمامى من نغم المضغ ونظر خلفه ليلمح الرغيف فى يد الضابط، ثم بلل ريقه الجاف. سألته عن حاله فأجاب أنه رابض فى نفس هذا المكان منذ السابعة صباحا، أى منذ أكثر من عشر ساعات.

هدأ صراخ الجميع بعد أن دب اليأس فى أرواحنا من إمكانية الدخول إلى استاد القاهرة، خاصة أن الوقت يداهمنا وصفارة الحكم تقترب أكثر فأكثر. فى ظل الانتظار المقيت وقفنا نمضغ حلمنا باللحاق بنهائى أفريقيا للأبطال، وفجأة بدأ الرجل الواقف عن يمينى الحديث معى وكأنه يستكمل حوارا قد بدأناه منذ فترة. نظرت إليه فى استغراب. كان يرتدى جلابية بيضاء. عرفت أنه فى الخامسة والستين من العمر، وأنه على المعاش بعد أن أمضى أكثر من أربعين عاما فى مجال التدريس: «تصدق يا أستاذ إن مراتى كان راسها وألف سيف إن أنا ما جيش الاستاد النهاردة.. قال إيه.. أنا عجوز على مرواح الاستاد. عايزة تتحكم فى حياتى بأى شكل. كانت عايزانى أفوّت اللمة الجميلة دى فى الشارع وأنا حتى مش شايف باب الاستاد». ثم انفجر ضاحكا. لم أعرف ماذا أقول له، خاصة أن أبنائى بدأوا يتململون، ومن نظرتهم عرفت أن «الغضب الساطع آت» لا محيص.

استكمل جارى الحوار بعد أن تحدثت للمرة العاشرة مع سيادة اللواء وأنا أبرز له تذاكرى ولكن دون فائدة: «بس عايز أقول لك حاجة.. أنا مش ممكن أسمع كلام حرمة. عايزانى قال إيه.. أحبها وأسمع كلامها وطالبة كمان أقول لها.. أنا ما اقدرش أعيش من غيرك.. طبعا ده مستحيل أقول الكلمة دى. ده يبقى والعياذ بالله شرك بالله. أيوه والله.. ربنا هو الوحيد اللى ما اقدرش أعيش من غيره. الست بعد العشرة دى عايزة تكفّرنى». طلبت منه أن نحاول مرة جديدة. ونجحت بالفعل هذه المحاولة وسمح اللواء بفتح جدار الجند بما يسمح بمرور شخص واحد بصعوبة، ودلفنا من هذه الفتحة أنا وهو وأبنائى وهم يصرخون من النشوة، وقد تملكتهم البهجة بجلال قدرها. كان قد بقى على لحظة الحسم قرابة نصف الساعة. فعدونا فسبقنا ظلنا حتى وصلنا إلى بوابة الاستاد المهيبة. كانت المفاجأة القاسية أن وجدنا عددا هائلا من البشر أمام أبواب مغلقة. نفس المنظر ونفس صف الجنود ومن خلفهم الضباط، الفارق أننا أصبحنا نرى الاستاد رؤى العين. واستمر الاستجداء المهين مرة جديدة ولكن هذه المرة لم تفلح توسلاتنا فى فتح المزلاج الذهبى لبوابة الجنة. عدنا أدراجنا ونحن نجرجر ما تبقى من نشوة الاقتحام الأول. ومررنا بصعوبة من ترس الجنود الأوائل. وسرنا يمينا بمحاذاة سور الاستاد.
وهناك وقف أبنائى مشدوهين.. فقد كان صف الجنود الواقف لحراسة السور يرفع فوق أكتافه النحيلة من يريد أن يقفز من فوق السور، الواحد وراء الآخر، وهم يلهثون من فرط الأوزان التى يرفعونها على أمل أن يلحق من يقفز بالمباراة. 
 

خالد الخميسي  كاتب مصري