عن غالي شكري الذي نسيناه - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 7:10 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن غالي شكري الذي نسيناه

نشر فى : الجمعة 3 يناير 2020 - 8:40 م | آخر تحديث : الجمعة 3 يناير 2020 - 8:40 م

كانت بادرة رائعة من الصديقة الإعلامية النشطة دينا أبو زيد بإنتاج حلقتين من برنامجها الوثائقى «حبر على الرصيف» عن الناقد والمفكر والمثقف الراحل غالى شكرى. (1935ــ 1998)، والذى أذيعت أولى حلقاته الأسبوع الماضى، وتحدث فيها عدد من الأصدقاء النقاد والكتّاب عن جوانب من سيرة وحياة المفكر الكبير.

أذكر أننى أثناء مراجعتى لواحدة من مصادر الدراسة الأدبية، والمقالات القديمة، عن نقاد التيار الاجتماعى فى مصر، استوقفتنى عبارة (للأسف لا أذكر الآن من كتبها)، لكننى أذكر جيدا محتواها؛ تقول «غالى شكرى هو الناقد المثقف المفكر بألف لام التعريف. كان ينطلق من إيمان عميق بأن النقد شديد الارتباط بالفلسفة، والفلسفة بدورها شديدة الارتباط بالعلم، والعلم بدوره شديد الارتباط بالفكر والحضارة بصفة عامة».


وقد كانت هذه الإيماءة المبهرة سببًا كافيا للالتفات إلى هذا المثقف الكبير الذى تنوعت وتعددت المجالات التى أسهم فيها بالكتابة بين النقد الأدبى، وسوسيولوجيا المعرفة، والهم السياسى، والقضايا الاجتماعية، والحوارات الصحفية، ما دفعنى إلى البحث عن أعماله التى اكتشفت، فضلا عن غزارتها، أنها من العيار الثقيل جدًا.

وكان من حظى أننى اتصلتُ بإنتاج غالى شكرى قبل دخولى الجامعة، من خلال الطبعة التى أتاحتها هيئة الكتاب (بين سنتى 1991 و1995) لبعض كتبه؛ كما اقتنيت أعدادًا رائعة (أعتبرها وثائق تنويرية؛ معرفية وتاريخية ليس لها مثيل) من مجلة (القاهرة) التى كان يترأس تحريرها غالى شكرى، وتصدر عن هيئة الكتاب أيضًا.

لم يكن أول ما قرأت له فى النقد الأدبى (تخصصى المباشر)، إنما كان كتابًا فاتنًا لم أقرأ آنذاك ما يماثله عمقا وتركيزا وسلاسة أسلوبية جمعت بين الرصانة والثقل المعرفى، وبين الكتابة الصحفية المباشرة، دون الإخلال أبدًا بشرط القيمة وتحليل الفكرة والارتقاء بها إلى مصاف البحوث والدراسات الرفيعة؛ كان هذا الكتاب هو «مذكرات ثقافة تحتضر» الذى ما زلت أحتفظ بنسخته التى اشتريتها عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1995.

واجهنى غالى شكرى فى هذا الكتاب؛ مثقفًا عملاقًا، موسوعيًّا، دقيق النظر والإحاطة بكل ما يدرسه من ظواهر؛ فكرية وثقافية ومعرفية وأدبية ونقدية، ولعل خاتمة الكتاب التى سجلها بعنوان «خاتمة كتبت نفسها من ثلاث كلمات «عبدالناصر والمثقفون»، واحدة من أدق وأعمق بل أشمل الخلاصات التحليلية لفترة حكم عبدالناصر وعلاقته بالمثقفين؛ كان غالى شكرى ذكيا ومحللا من طراز رفيع، وهو يكشف عن التراكب الشديد المعقد بل المتناقض (فى أحوال كثيرة) الذى حكم هذه العلاقة الغريبة فى تاريخنا القريب.

وربما كان غالى شكرى من الذين أدركوا بوعى رهيفٍ للغاية كيف كانت السلطة آنذاك تدير أمورها بذكاء (بل بمكر ودهاء فى غالب الأحيان) فيما يتعلق بالمثقفين، وكيف كانت تلعب لعبة التوازنات بين الأجنحة المتصارعة آنذاك، وتديرها لحسابها، وبما يتماشى مع أهدافها ومصالحها.
ثم بعد ذلك اكتشفت أن غالى شكرى واجه السؤال الكبير؛ سؤال النهضة والتخلف والتراجع الحضارى، فى عددٍ من كتبه ربما كانت الأهم التى حللت وشخصت الواقع العربى، وضمنه الواقع والثقافة المصرية، وحاولت أن تقارب إشكالية النهضة المرتجاه بالبحث عن جذورها المعرفية والتاريخية بمقاربة منهجية منضبطة، أفادها من دراسته الأكاديمية المعمقة فى فرنسا بإشراف الباحث السوسيولوجى الكبير «جاك بيرك».

وحاول فى كتبه التأسيسية التى دارت حول هذا الموضوع «النهضة والسقوط فى الفكر المصرى الحديث»، و«الثورة المضادة فى مصر»، و«أقواس الهزيمة»، و«دكتاتورية التخلف العربى»، و«المثقفون والسلطة» (وهى كلها دراسات رفيعة تنتمى إلى مجال سوسيولوجيا الثقافة والمعرفة فى وقت لم يلتفت فيه إلا القليل إلى هذه الدوائر المعرفية الغنية بمنهجياتها ومفاهيمها الإجرائية وأدواتها التحليلية)، وغيرها، حاول أن يفكك معرفيًا العناصر التى تنطوى عليها صيغة النهضة؛ التى يرى أنها قامت، وما زالت تقوم، على أساس من ثنائية تجمع بين طرفين متعارضين، الأنا مرة والآخر مرة أخرى، الأصالة والمعاصرة، فى مرة ثانية، والقديم والجديد، فى مرة ثالثة، التراث والعلم الحديث مرة رابعة وخامسة أو سادسة.

إنها صيغة تحمل فى داخلها بذرة للنمو، وفى الوقت نفسه تحمل جرثومة السقوط. وهذه الثنائية التى تقوم عليها النهضة، بغض النظر عن تغير طرفى الثنائية، هى الموضوع الأساسى لكتب ومؤلفات غالى شكرى المشار إليها سابقًا.. (وللحديث بقية).