يتميز النظام الصحى فى مصر بتركيبة فريدة وشديدة التعقيد لمقدمى الخدمة الصحية ومصادر تمويلها، إلا أن القطاع الخاص يتسم بالكثير من العشوائية والفوضى والخلل السعرى وغياب معايير الجودة. هذا بالإضافة إلى الحاجة. وفى الوقت الذى تحتاج فيه سوق الرعاية الصحية لإعادة الهيكلة والتنظيم للحد من نسب الإنفاق من الجيب التى وصلت إلى 60%، مازالت السوق تعانى من الاختلالات والاحتكار مما يجعله بحاجة للتنظيم بما يسمح بشراكته مع القطاع الحكومى والأهلى فى إطار من نظام تأمينى شامل جديد.
إن منهج القطاع الخاص فى الاستثمار فى الرعاية الصحية مبنى على النفعية والربح لا على غلق فجوات التمويل وضمان وصول الخدمات إلى الفئات الأكثر هشاشة أو الأكثر احتياجا لبرامج الحماية الاجتماعية. لذا بات لزامًا أن يحظى هذا القطاع بتركيز المشرعين وصناع السياسات من أجل وضع الأطر القانونية اللازمة لتنظيم وإدارة القطاع الصحى الخاص وتعظيم الاستفادة منه. وفى هذا السياق قدمت وزارة الصحة مشروع قانون فى نهاية العام المنصرف لتنظيم الخدمات الصحية الخاصة من أجل طرحه ومناقشته فى مجلس النواب بغرفتيه. ويُعنى مشروع القانون المقدم بإنشاء المنشآت الطبية الخاصة وتنظيم عملها. إلا أنه رغم أهميته من حيث الفلسفة فإن مشروع القانون لاقى اعتراضات بلغت حد الرفض من نقابة الأطباء وكذلك من خبراء السياسات الصحية، وسيشرح هذا المقال أبرز الاعتراضات التى قدمها الأطباء مع وضع التوصيات التى تضمن قبول الظهير المجتمعى والشعبى لبنوده.
• • •
فى البداية، فإن طريقة وضع مشروع القانون أثارت الانتباه، فغياب أطراف من مناقشات وضع التشريع وظهوره بشكل مفاجئ أمام النقابة يضع سؤالا عن مبادئ الحوكمة وأهمية إشراك الأطراف الفاعلة فى المجتمع فى سن التشريعات والقوانين التى تمس جميع أفراده، وخاصة أن الحق فى الصحة هو حق أصيل للإنسان ومنصوص عليه فى الدستور المصرى والتشريعات الدولية. ويعتبر قانون التأمين الصحى الشامل قصة نجاح فى هذا الشأن، إذ إن تعدد الأطراف على طاولة المناقشات وتمثيلهم لمختلف المؤسسات سواء الحكومية أو النقابية أو الحقوقية أو المجتمع المدنى، أعطى القانون الركائز اللازمة لتمريره واعتماده وهو ما حدث عام 2018.
وعلى ذكر قانون التأمين الصحى الشامل، فإنه يوجد تعارض بين فلسفة تشريعه وبعض بنود مشروع تنظيم خدمات «الخدمة الصحية الخاصة» بصورته الحالية. وترتكز فلسفة التأمين الصحى الشامل على المادة 18 من الدستور المصرى بالحق فى الرعاية الصحية المتكاملة وفقًا لمعايير الجودة، وكذلك ضمان العدالة الاجتماعية والمساواة فى الوصول للخدمات الصحية بين القادرين وغير القادرين من فئات المجتمع مع استدامة تمويل الخدمة الصحية لتغطية كل فئات المجتمع طول الوقت وعلى مدى الحياة. أما مشروع القانون فإنه يضع أعباء مادية إضافية على منشآت تقديم الخدمات الصحية مما سيرفع تكلفة الخدمة المقدمة للمرضى ويعزز من أوجه عدم المساواة. كذلك فإن العراقيل الإدارية المنصوص عليها للأطباء ستشكل عامل نفور إضافيا للأطباء ويفاقم من المشكلة الموجودة فى نقص عدد الطواقم الصحية.
• • •
فيما يلى استعراض لبعض المشاكل المطروحة فى نص هذا القانون:
ــ السماح بإنشاء مراكز إسعاف خاصة، ولكن لم يستعرض المشروع آلية الاستفادة منها للمواطنين والمواطنات أو تسعير الخدمات الخاصة بها مما قد يؤدى إلى فواتير باهظة الثمن لخدمة منقذة للحياة.
ــ السماح لأى شخص ــ ولا يشترط أن يكون طبيبا ــ بإدارة منشأة صحية وتنظيم ووضع اللائحة الداخلية للمنشأة الطبية الخاصة، مما يحولها إلى نشاط تجارى يفتقر إلى أبسط المعايير الأخلاقية لتقديم الخدمة الصحية والتى يقسم عليها الأطباء فى قسم أبوقراط. بالإضافة إلى كونها نشاطا تجاريا فإن السعى للربحية والتنافسية مع المنشآت الأخرى قد يفتح بابًا لممارسات من شأنها الضرر بالمريض أو المريضة وهذا يعكس اتجاها واضحا لخصخصة القطاع الصحى. وفى نفس السياق، فإن رفع تكاليف التراخيص للمنشآت الطبية سيدفع بعضها إما للخروج من تقديم الخدمة وإما تحميل زيادة المصروفات على المريضة والمريض المصرى.
ــ القانون لم يشترط المعايير المصرية للمنشآت الطبية وهو يعكس إما نظرة دونية لجودة المعايير المطبقة فى مصر وعدم الثقة بها أو السماح الكامل للهيمنة الأجنبية فى القطاع الصحى دون ضوابط تحفظ حق المريض والمريضة. ويأتى هذا فى الوقت الذى تنشط فيه الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية وبرنامج اعتماد الجودة GAHAR، ولم يشترط القانون حتى أن تحصل المؤسسات الأجنبية على هذا الاعتماد المبنى على معايير دولية وهو تضارب آخر مع التأمين الصحى الشامل.
ــ أما عن السماح للعاملين بقطاع الصحة من الأجانب فإن هذا يطرح تساؤلا عما إذا كانوا سيخضعون للمساءلة بقوانين المسئولية الطبية المطروحة للنقاش أيضا أمام البرلمان أم سيكتفى بترحيلهم أو الاستغناء عنهم؟
ــ لا يوجد بهذا القانون ما يمنع أن يكون صاحب المنشأة الصحية أجنبيا وهو أمر قد يتسبب فى ضرر بالأمن القومى المصرى، فعلى سبيل المثال ماذا لو قرر أصحاب المنشآت الأجانب الخروج من السوق المصرية فى وقت واحد نظرًا لعدم الربحية، هل سيتوجب على الدولة المصرية سد هذه الفجوة حينها؟
ــ منع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من إجراء عمليات جراحية كبرى وهو لا علاقة له بجاهزيتها لإجراء هذا النوع من العمليات، مما يندرج تحت بند تشجيع الاحتكار لصالح المؤسسات الخاصة الأكبر. وفى وجود غياب لآلية واضحة لتسعير الخدمات الصحية فإن هذا يرفع تكلفة شق هام من الرعاية الصحية على الشخص المريض.
ــ ضرورة موافقة الجهة الحكومية على عمل الطبيب فى عيادته هو تعسف إجرائى وإدارى، لأنه فى حالة الرفض سيلجأ الطبيب للاستقالة من الحكومة والعمل بالقطاع الخاص وهو الأعلى فى الدخل، وخاصة لو كان مكان العمل بحسب هذه المسودة هو مستشفى أجنبى فيتساوى فيه أجره مع الطبيب الأجنبى. وعليه فإن هذا البند سيدفع بالعاملين بالقطاع الصحى إلى تفضيل القطاع الخاص والاستقالة من الحكومة مما يفاقم أزمة نقص عدد الأطباء الموجودة بسبب الهجرة.
• • •
خاتمة وتوصيات: فى النهاية، فإن عودة هذا المشروع لطاولة المناقشات قبل تقديمه لمجلس النواب وإجراء التعديلات عليه سيعظم من الفائدة المجتمعية، فالفلسفة المطروحة هى أن هذا القانون يقدم حلولا وحوكمة وهو ما ترحب به جميع فئات المجتمع من نقابات الأطباء، وأطباء الأسنان، والأحزاب، ومؤسسات المجتمع المدنى، لكن يبقى تحدى الانفراد برؤية تقديم الحلول هو ما جعل هذا القانون ينتهى ببنود تضر أكثر مما تنفع، بل وتفتح أبوابا جانبية أمام الفساد لا مكافحته، ولمزيد من العشوائية لا حوكمة القطاع.