طبيب أهم من مستشفى - محمد زهران - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 3:40 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

طبيب أهم من مستشفى

نشر فى : السبت 9 أبريل 2016 - 10:00 م | آخر تحديث : السبت 9 أبريل 2016 - 10:00 م
إسحاق نيوتن معروف بقصة التفاحة التي وقعت على رأسه فاكتشف قوانين الحركة!! القصة طبعا غير صحيحة فقد استغرق نيوتن حوالي أربعة عشر عاما ليتم اكتشافه لقوانين الحركة!

وقصة سقوط التفاحة التي ألهمته القوانين بغته تنسب لفولتير، ولكن مع ذلك القصة الحقيقية أيضا يوجد بها تفاحة! عندما كان نيوتن يسير في الجامعة في فترة راحة بين عدة اجتماعات رأى تفاحة تسقط من شجرة في حديقة بجانب الجامعة، ويبدو أن نيوتن كان جائعا فقفز من فوق السور وأخد التفاحة.. وأكلها! في هذه الفترة كان نيوتن فعلا مشغولا بالتفكير في موضوع قوانين الحركة وكان يحاول فهم حركة الأجرام السماوية، فلما رأى التفاحة فكر أنه ربما القوانين التي تتحكم في حركة الأجرام السماوية هي نفسها التي تتحكم في الأجسام الصغيرة مثل التفاحة. أخذ هذه الفكرة وطلب تمويلا لأبحاثه للتوصل لقوانين الحركة من أحد الأمراء (في ذلك الوقت لم تكن الجامعات أو مراكز الأبحاث أو الشركات تمول المشورعات البحثية)، وحتى يجعل الفكرة سهلة على هذا الأمير لم يذكر الأجرام السماوية، ولكن ذكر مثال التفاحة. بعد عدة أسابيع جاءته الموافقة على التمويل من هذا الأمير لمشروع: تحسين سلالات التفاح فى إنجلترا حتى لا يفسد من سقوطه على الأرض!

ولكن نيوتن لم يتذمر ووافق على المشروع، فكان يعمل على تحسين سلالات التفاح ويعقد اجتماعات مع الفلاحين وفي نفس الوقت يقتطع جزءا من مال التمويل والوقت للعمل على مشروعه الأساسي. وظهرت قوانين نيوتن للحركة الثلاث المشهورة. المغزى من هذه القصة (وهي حقيقية ومذكورة في كتاب شيق للغاية وقديم بعض الشئ اسمه A Random Walk in Science أو رحلة عشوائية في العلم. للأسف لم يترجم بعد للعربية على حد علمي) هو أن العلم والاكتشافات العلمية تتقدم بالمثابرة، ليس فقط على فشل بعض التجارب والنظريات، ولكن أيضا على العمل في ظروف غير مثالية مثل نيوتن وتحسين سلالات التفاح وأينشتاين واكتشافه للنسبية الخاصة عندما كان يعمل موظفا في قسم براءات الاختراع.

ومثل شخصيتنا اليوم.

شخصيتنا اليوم مبهرة بكل المقاييس، طبيب هو، حاصل على الدكتوراه في الرمد الصديدي، المصري من جامعة باريس، عاد إلى مصر عام 1838 وعين مدرسا في مدرسة الطب (كلية طب قصر العيني الآن) وكانت تعج بالأطباء الأوروبيين الذين فشلوا في الوقوف أمام عبقريته وهو مازال في العقد الثالث من العمر، إنه الدكتور محمد علي البقلي.

عندما شعر الأطباء الأوروبيون بالخطر من هذا الطبيب المصري أوغروا صدر عباس باشا الأول عليه، فأبعده من مدرسة الطب. وهنا نستطيع أن نتخيله في موقف نيوتن وسلالات التفاح، لم يغضب الدكتور محمد علي البقلي وفتح عيادة في قلب القاهرة. المفاجأة هنا أن هذه العيادة أصبحت أهم من قصر العيني كما يحكي عبدالمنعم شميس في كتابه الجميل "عظماء من مصر". لمدة خمس سنوات أصبح الناس يذهبون للعيادة وجلس الأطباء الأجانب في قصر العينى ينتظرون أي مريض!

لنتوقف عند هذه النقطة ونرجع بالزمن إلى عام 1815 حين ولد هذا الطبيب العظيم في زاوية البقلي مركز منوف، بدأ رحلته من كتاب القرية وحتى مدرسة الطب في مصر وكان ناظرها (أي عميد كلية الطب كما نسميه الآن) الطبيب الفرنسي أنطوان كلوت أو كما يعرف في مصر بكلوت بك، هذا الطبيب الفرنسي النزيه رأى معالم العبقرية في محمد علي البقلي وأرسله في بعثة إلى فرنسا، وعاد طبيبنا الشاب عام 1838 وقد أصبح "الدكتور" محمد علي البقلي، ثم حدث ما حدث من تركه مدرسة الطب إلى العيادة.

بعد خمس من العمل في العيادة جاء حاكم جديد لمصر هو سعيد باشا، وهنا تغير الحال مع الدكتور محمد علي البقلي حيث عينه سعيد باشا كبيرا لأطباء الجيش وكبير جراحي مستشفى قصر العيني ووكيلا لمدرسة الطب وأيضا طبيبه الخاص، وازداد نجمه لمعانا وأصبح أول ناظر مصري لمدرسة الطب (أي أول عميد مصري لكلية الطب) خلفا لأستاذه كلوت بك.

عند وصوله لكرسي النظارة شرع طبيبنا في تعريب العلوم الطبية والتدريس باللغة العربية لمحاربة الاستعمار وإنهاء النفوذ الأجنبي حتى لا يعود الأوروبيون للسيطرة على مدرسة الطب، في هذه الأثناء تولى حكم مصر الخديوي إسماعيل والذي أنعم عليه برتبة الباشوية، أصبح محمد علي البقلي باشا، وأقنع الخديوي بطبع الكتب الطبية العربية في مطبعة بولاق. كتابة هذه الكتب بالعربية سواء تأليف أو ترجمة كانت ملحمة وطنية عظيمة قادها محمد علي البقلي ومعه عظماء كثيرون مثل الدكاترة: إبراهيم بك النبراوي وأحمد حسن الرشيدي بك ومحمد الشافعي بك ومحمد الشباسي بك وحسين الرشيدي وعلي هيبة وغيرهم. هؤلاء من الرعيل الأول المصري في مدرسة الطب الذي حل محل الأجانب وتفوق عليهم.

كم مجلة طبية كانت تطبع في العالم في ذلك الوقت من القرن التاسع عشر؟ أعتقد لا يتعدوا أصابع اليد الواحدة، ولكن كانت منهم مجلة طبية أصدرها محمد علي البقلي مع زميله إبراهيم دسوقي وتصدر باللغة العربية شهريا وتسمى اليعسوب (بدأت في العام 1865 وتوقفت عام 1876 وهي سنة وفاته) واتخذت المجلة شعارا لها الآية القرآنية: "يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس". فكان هذا الطبيب العظيم سابقاً لعصره.

سافر الدكتور محمد علي البقلي مع الجيش المصري الذي شارك في حرب الحبشة برفقة الأمير حسن باشا نجل الخديوي إسماعيل باشا وللأسف عاجلته المنية ودُفن هناك وتتضارب الأقوال عن مكان ضريحه.

أرجو منك أن تتذكر أعمال هذا الطبيب العبقري العظيم وأنت تسير في منطقة النزهة بمصر الجديدة. في شارع محمد علي البقلي، رحمه الله.
محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك فى تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه فى نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.. له اهتمامات عديدة بتاريخ وفلسفة العلوم ويرى أنها من دعائم البحث العلمى، يستمتع جداً بوجوده وسط طلابه فى قاعات المحاضرات ومعامل الأبحاث والمؤتمرات، أمله أن يرى الثقافة والمعرفة من أساسيات الحياة فى مصر.
التعليقات