العدالة والسيرك.. ومستقبل القوة الأمريكية - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 1:57 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العدالة والسيرك.. ومستقبل القوة الأمريكية

نشر فى : الأحد 9 أبريل 2023 - 7:25 م | آخر تحديث : الأحد 9 أبريل 2023 - 7:25 م

«يا للهول.. إنهم يريدون أن يعتقلونى، لا أكاد أصدق أن هذا يحدث فى أمريكا التى كانت ذات يوم عظيمة».

كان ذلك تصريحا مثيرا بنصه ودلالاته.

الرئيس السابق «دونالد ترامب» يعتقد حقا أنه فوق القانون، وأن التفكير فى اتخاذ إجراءات قضائية بحقه «مؤامرة» وفعل «سوريالى» غير قابل للتصديق.

بحسب استطلاعات الرأى العام فإن أغلبية الجمهوريين لديها الرأى نفسه أن هناك «مؤامرة» يقف خلفها الرئيس الحالى «جو بايدن» لمنع «ترامب» من الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة (2024).

على نحو لافت تداخلت إجراءات العدالة وأعمال السيرك فى أول محاكمة لرئيس أمريكى سابق بتهم بعضها جنائية.

أمعن المتهم فى التجاوز اللفظى والأخلاقى بحق قضاته، فالمدعى العام «يسارى راديكالى وفاسد» والقاضى «منحاز ضدى ويكرهنى».

التسييس الزائد ساد أجواء المحاكمة والتصرفات ناقضت اعتبارات العدالة.

رغم حرص البيت الأبيض على تأكيد أن «بايدن» ليس مهتما بالمحاكمة وما يجرى فيها إلا فى حدود المتابعة الاعتيادية للأخبار فـ«وقته للشعب الأمريكى وحده» لم يكن أحدا مستعدا أن يصدق ذلك الادعاء الرسمى.

أجواء المحاكمة أهم من إجراءاتها.

تأثيراتها طاغية على السباق الانتخابى الذى يوشك أن ينطلق، ورسائلها متداخلة فى صورة الولايات المتحدة بعالم متغير لم تتضح كامل حقائقه الجديدة انتظارا لما تسفر عنه الحرب الأوكرانية المحتدمة.

أمريكا المضطربة تكاد ألا تعرف مواقع أقدامها إلى المستقبل.

«ترامب» يرى أن «دولتنا تتجه إلى الجحيم»، كأن محاكمته دليل على الفشل، دون أى دفاع مقنع عن الاتهامات الموجهة إليه وأغلبها شائن بأى معنى أخلاقى أو سياسى.

القضية لا تلخصها الرشى التى دفعها لـ«شراء الصمت» على فضائح جنسية ارتكبها، ولا التزوير فى سجلات رسمية لإخفاء معالم الجريمة حتى لا تؤثر على حملته الانتخابية الرئاسية (2016).
صلاحيته للرئاسة كانت صلب واقعة «شراء الصمت»، وهى موضوع محاكمته الآن دون كلام كثير عن العدالة الأمريكية.

«أواجه حملات اضطهاد ضدى»، كان ذلك جوهر استراتيجية «ترامب» للدفاع عن نفسه وبناء تعاطف معه باعتباره ضحية.

وفيما هو ظاهر أثبتت فاعلية كبيرة فى دوائر مؤيديه.

من هذه الزاوية بدت المحاكمة مباراة سياسية فى الحشد والتعبئة وإقناع الرأى العام أخذ فيها «ترامب» زمام المبادرة.

مباراة سياسية لا قانونية.

المثير للالتفات أن الاتهامات التى يحاكم عليها أمام محكمة فى نيويورك أقل أهمية وخطورة بما لا يقاس من اتهامات أخرى قيد استكمال إجراءاتها مثل التحريض على اقتحام مبنى «الكابيتول» لمنع التصديق على انتخاب «بايدن» رئيسا، والتدخل لتغيير نتيجة الانتخابات الرئاسية فى جورجيا والأخطر حيازة وثائق سرية خطيرة ليس من حقه الاحتفاظ بها فى قصر «مارا لاجو»، الذى يمتلكه بولاية فلوريدا.

فى أجواء الاصطفاف الحزبى يصعب أن تكون هناك عدالة ذات صدقية.

لا الجمهوريون سوف يقبلون إدانة «ترامب» خشية أن تؤثر على حظوظهم الانتخابية، ولا الديمقراطيون تعنيهم العدالة إلا بقدر ما توفره من فرص لإزاحته من المشهد كله.

ذلك الانقسام السياسى الحاد أفضى سابقا إلى إجهاض إجراءات عزله بفارق أصوات معدودة فى مجلس الشيوخ.

بحسابات الالتزام الحزبى لا باعتبارات الأمن القومى وصدقية الاتهامات ومدى خطورتها أفلت «ترامب» من العزل.. ولا يستبعد أن يفلت مرة أخرى من الحبس بصفقة ما فى الظلام.

إثر البدء فى محاكمة «ترامب» لوح الجمهوريون أنهم سوف يعملون على محاكمة «بايدن» بتهم سوء استخدام السلطة من موقعه نائبا للرئيس «باراك أوباما» بالتورط فى قضايا فساد منسوبة إلى نجله «هانتر» يجرى التحقيق حاليا فى مخالفاتها داخل الكونجرس.

مرة أخرى.. لا أحد فوق القانون لكن وفق الحسابات والمشاحنات السياسية لا أصول العدالة وقواعدها.

فى محاكمة «ترامب» غلبت عناصر الإثارة السياسية الأدلة والحجج والقرائن.

بأمر قضائى لم تبث الجلسة الأولى على شاشات التلفزيون خشية أية تفلتات أمنية من أنصاره.
الانقسام الأمريكى الحاد يطرح بالضرورة سؤال: إلى أى حد تؤثر محاكمة الرئيس السابق الأكثر إثارة للجدل على صورة الولايات المتحدة فى عالمها؟

يفترض نظريا أن تفضى إلى تحسين فى الصورة، باعتبارها بلدا لا أحد فيه فوق القانون، غير أن أعمال السيرك التى شابت المحاكمة تدعو إلى الاعتقاد أن ثمة مشكلة جوهرية فى مؤسسة العدالة وصدقيتها واحترامها، ومشكلة حقيقية أخرى فى بنية المؤسستين التشريعية والتنفيذية.

بصورة ما يلخص الرئيسان المتعاقبان «ترامب» الجمهورى و«بايدن» الديمقراطى عمق الأزمة الأمريكية.

الأول، جاء من خارج المؤسسة، رجل أعمال طموح ومتفلت، يتبنى خطابا شعبويا، لا خبرة له تقريبا بما يحدث فى العالم، أدار الدولة بالطريقة التى يدير بها شركاته، رفع شعار «أمريكا أولا»، حاول بقدر ما يستطيع تفكيك الاتحاد الأوروبى، ولم يكن مقتنعا أن حلف «الناتو» يستحق ما تتكفل به الولايات المتحدة من تكاليف مالية، فـ«الأمن مقابل الدفع».

كانت ذروة مأساة فترته الرئاسية الطريقة العشوائية، التى أدار بها أزمة الجائحة وأفضت إلى ارتفاع أعداد الضحايا بصورة هزت مكانته وجعلته موضعا للسخرية بأنحاء العالم.

والثانى، جاء من داخل المؤسسة، تمرس فى العمل التشريعى لسنوات طويلة، عمل نائبا للرئيس لفترتين.

بدت صورته باهتة بالقياس إلى شخصية «أوباما»، لم يكن مقنعا بصلاحيته للرئاسة، لكنه كسب معركتها الانتخابية كنوع من التصويت العقابى لـ«ترامب» وسياساته التى لخصت أسوأ ما فى السياسة الأمريكية بقضايا اللاجئين والمهاجرين والأقليات الملونة والصدامات المتكررة مع الصحافة والإعلام.

لم يكن ممكنا لرجل بمواصفات «بايدن» أن يربح الانتخابات الرئاسية أمام رجل آخر غير «ترامب».

فى تجربته الرئاسية اتخذ منحى مغايرا لتأكيد القوة الأمريكية وأنها قد عادت.

وجد فى الأزمة الأوكرانية فرصة سانحة لإعادة بناء التحالف الغربى وضخ دماء الحياة فى «الناتو» مجددا وضم دول جديدة إليه.

يتصور أن بوسعه استعادة صفة الدولة العظمى المنفردة إذا ما خرج منتصرا من الحرب الأوكرانية، وهو افتراض يصعب اعتماده، لكنه ماثل بصورة أو أخرى فى السجال الأمريكى الداخلى.

قصة الرئيسين بكل تناقضاتها توحى أننا أمام إمبراطورية غاربة.

لم يعد ذلك استنتاجا بالهوى من كتاب ومفكرين فى العالم الثالث بقدر ما صارت مقولة متداولة فى الولايات المتحدة نفسها وجدت من يتبناها من كبار صحفييها مثل «سيمور هيرش»، الذى بنى صيته على تحقيقاته الاستقصائية المدققة.

بنص عبارته الموحية: «أمريكا لم تعد دولة عظمى».

هذه هى الحقيقة الكامنة فى قصة ما يجرى الآن.