سر «الوَيَم» - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سر «الوَيَم»

نشر فى : الخميس 9 يوليه 2020 - 8:10 م | آخر تحديث : الخميس 9 يوليه 2020 - 8:10 م

في كل مرة سألت فيها أمي عن مقادير هذا الطبق الشهي أو ذاك من أطباقها المميزة كان يأتيني منها رد واحد "بالوَيَم"، أستطرد لأحاول أن أترجم هذا الوَيَم إلى كذا كوب من الدقيق أو كذا ملعقة من السمن فلا تريحني أبداً، ألتصق بها أكثر لعلي أكتشف خلطة أمي السحرية فكنت للعجب أجدها تارة تزيد في مقدار اللبن وأخرى تنقص من مقدار السكر، وفِي النهاية كان الطعم يخرج شهياً كالمعتاد بنفس المذاق ونفس الطعم ونفس النكهة. علمونا في الرياضيات أن ١+١ =٢ لكن مع أمي كانت النتيجة ٢ هذه تأتي كمحصلة لجمع أرقام لا تشبه ١+١ في شيء، معي كل الحق إذن إن لم أحب الرياضيات، فهي علم معقد في العموم وزاد هذا الوَيَم العجيب في تعقيده أكثر فأكثر. تَقدّم العمر بأمي الحبيبة فلم تعد تقوى على الطهي بنفسها، ضاق خُلقُها وكانت النار تؤذي عينيها الضيقتين جداً، لكنها مع ذلك كانت تُمارس سلطاتها كاملة ولا تفوض منها إلا دخول المطبخ فقط لا غير، أما المقادير فكانت هي التي تحددها لمعاونتها أو معاونها حسب الظروف من الألف إلى الياء، وكنت أراقبها وهي تتابع بثقة عملية الطهي خطوة خطوة وتأمر وتنهي وأحياناً تثور. خبرّيني يا أمي من أين تعلمتِ هذا الوَيَم؟ تضيق عيناها السوداوان أكثر فأكثر وتراوغني بخبث لذيذ: من الأُسطى إبراهيم؟ يوووووه، كنت أعرف جيداً الأسطى إبراهيم وكان إخوتي يعرفونه أيضاً وإن لم يره أحد منّا، فهو طاهِ البيت الكبير الذي نشأت فيه أمي، وكان عّم إبراهيم يطهو لأن أمي تربت يتيمة الأبوين في بيت عمها الأعزب. لكن من أين تعلم الأسطى إبراهيم هو نفسه أصول الطهي؟ وكيف انتقلت مقاديره المتغيرة إلى أمي وماذا تعلّمَت هي منه بالضبط؟ كانت تلوح لي منها ابتسامة غامضة أحببتها جداً قدر فضولي لفك لغز الوَيَم... وقليلاً ما كانت أمي تبتسم.
***
عندما بحثت في معنى كلمة الوَيَم هذه التي حيّرَتني تبينتُ منذ وقت مبكّر أنها التحريف العامي للكلمة العربية الفصحي "المواءمة"، بمعنى أن أوائم ما بين المقادير المعينة بزيادة تارة ونقص تارة أخري، لكن في النهاية تكون المحصلة واحدة ونتلذذ بأطباق لا أشهى منها ولا أطعم. لفظ المواءمة هذا، وفِي قول آخر الملاءمة، كان لفظاً شائعاً جداً في القاموس المصري على أيامنا، وكثيراً ما استمعنا نحن الصغار إلى الأهل وهم ينهرونا عن التمرد على أوامرهم قائلين: وبعدها لك .. ما تلايمها يا ولد أو ما تلايميها يا بنت! وكنّا نلايمها ونرتدع. ومع ذلك فالقياس خاطئ، فأن نلايمها ونتوقف عن إحداث الضجيج أو عن الشجار مع بَعضنا أو عن تأجيل الواجب المدرسي شيء وأن نوايم ونلايم بين مقادير الأطعمة شيء آخر تماماً، الملايمة الأولي واضحة وملموسة ومحددة، أما الثانية فلا نعرف من أين نمسك بها بالضبط. وهكذا ظللتُ أكرر على أمي نفس الأسئلة وترد عليّ نفس الإجابات حتي رحلت إلى خالقها وأخذت معها أسرارها ومقاديرها وويمَها، رحلَت وتركت في أنوفنا روائح زكية لم نعد نشم مثلها أبداً. تجلى لي هذا الوَيَم كأنه جزء من روح أمي، إنه أشبه بالوحي الذي ينزل على المبدع فلا يعرف كيف يصفه لأنه في واقع الأمر لا يوصف، أو هو أشبه بالبصمة التي تميز شخصاً عن آخر فيستحيل أن يشترك فيها اثنان، أو هو سر كسر الوجود الذي نعيشه ولا نفك طلاسمه مهما حاولنا، ومع ذلك ظلت المعضلة بالنسبة لي هي كيف انتقل هذا الشيء المراوغ جداً والخاص جداً والغامض جداً من الأسطى إبراهيم إلى أمي؟
***
مضى زمان طويل، ووقفتُ ذات يوم مع ابنتي في هذه البلاد البعيدة البعيدة أغزل برجل حمار وأحاول أن أصنع لها البيتزا بالتونة التي تحبها بأشياء ومكونات غريبة على أناملي، دقيقهم وخميرتهم ولبنهم غير دقيقنا وخميرتنا ولبننا، وحتى وإن كنّا نستورد هذه المكونات من بلادهم ونتعامل بها فإن شيئا ما في هواء مصر يتسرب إلى تلك المكونات فتتحول وتتحور وتتغير فلا تعود كما كانت قط وتصير منّا وعلينا. أحبُ حبَ ابنتي لهذه البيتزا التعبانة التي أصنعها لها رغم محلات البيتزا الشهيرة والفاخرة التي تكتظ بها مدينتها، ففي هذا الحب يختلط المادي بغير المادي، في حبها يوجد معنى أني هنا إلي جوارها بشحمي ولحمي وقد طويت البعد وركبت بساط الريح وعبرت المحيط، وفيه معنى أنها مهما كبرت فإنها صغيرتي التي تأكل من صنع يدي تماماً مثل أيام زمان عندما كنت أناولها طبق البيتزا الساخنة بينما هي منهمكة في مذاكرة الخرسانة والهندسة الوصفية والهايدروليكا.. يا حفيظ يارب. وفيه معنى وهمي أننا نحسن التدبير وأن البيتزا المنزلية أرخص من البيتزا الجاهزة.. أصف المعنى الأخير بأنه وهمي لأن آخر ما يعمل حسابه جيل هذه الأيام هو الأسعار والتكاليف. دعتني ابنتي للجلوس فأبيتُ بشدة وقد تقمصتني فجأة روح الشيف الشربيني والشيف المتمكّن لا يجلس أبداً، مضيتُ أخلط المقادير ببعضها ولا أدع ابنتي تلحظ أنني أحاول أن أتذكر بصعوبة ماذا كنّا نخلطه مع ماذا بالضبط، وأحاول جاهدة ألا تهتز صورتي أمام ابنتي، الأم دائماً تعرف وتقدر وتجيد وهي دائماً حاضرة، الصيت ولا الغني مثل صحيح تماماً .
***
ها قد انتهينا من العجين يا حبيبتي ولنترك الآن البيتزا لتخمر لمدة تقارب.. تقارب.. نظرتُ في ساعة الحائط وقلت من ٦٠ إلى ٩٠ دقيقة، قلتها وأنا غير واثقة تماماً فالأمر يتوقف في النهاية على نوع الخميرة. سألتني ابنتي كالمعتاد: مش ناوية تقوليلي بقي مقادير البيتزا بتاعتك؟ تبدي لي وجه أمي الصبوح منعكساً هناك على زجاج النافذة وكان وحشني جداً منذ آخر مرة لاح لي.. لمحتُ عينيها الضيقتين الماكرتين تغمزان لي فغمزت لهما أنا أيضاً وقلتُ: بالَوَيَم.. كله بالَوَيَم يا سارة! يووووه يا ماما منين أجيب الوَيَم ده؟ ألقيتُ نفسي على الكرسي الذي كانت قد أحضرته لي، هززت كتفّي بما يعني أن الله غالب، وأجبتها وأمي معي: من الأسطى إبراهيم يا سارة.. من الأسطى إبراهيم !!

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات