اقتصاد في غرفة العمليات - مدحت نافع - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 12:01 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اقتصاد في غرفة العمليات

نشر فى : الإثنين 11 مارس 2024 - 7:30 م | آخر تحديث : الإثنين 11 مارس 2024 - 7:30 م

الاقتصاد يمرض كما يمرض البشر، وكلما فسد التشخيص وتأخر العلاج، كلما كانت بدائل التدخل محدودة، وفرص التعافى التام قليلة، وفاتورة التعاطى مع ذلك المرض كبيرة ومؤلمة. اليوم يعيش الاقتصاد المصرى فترة عصيبة، تضافرت فيها عوامل داخلية وخارجية، لتطبق على صدر الأمة كما لم تفعل أية صدمة منفردة من قبل.
الاقتصاد المصرى، كما سبق أن شخصناه مرارا، يعانى عجزا توأما مزمنا فى كل من الموازنة العامة وميزان المدفوعات (تحديدا ميزان التجارة) . يتغذى العجزان على موارد الدولة بصفة منتظمة ومتزايدة، بما يضاعف من أزمة الدين العام، الذى يعد المصدر الرئيس لتمويلهما. هذا الوضع المتأزم يجعل الاقتصاد أكثر انكشافا على العالم الخارجى، وأكثر هشاشة لدى التعرض لأية صدمات خارجية، مثل الاضطرابات والحروب والجوائح. يقلل من تلك الهشاشة تنوع وكبر حجم الاقتصاد المصرى، ولكن استدامة التنوع وكبر الحجم تقتضى مزيدا من الانكشاف على العالم الخارجى، خاصة مع التطور التكنولوجى والمعلوماتى السريع. وهكذا تستمر الدائرة المفرغة للعجز الخارجى والداخلى دون انقطاع، إلى أن يتدخل صانع القرار بشكل عملى لعلاج المرض الأصلى، والتوقف عن التعامل المنفرد مع الأعراض النقدية والمالية، فى معزل عن أزمة ضعف الانتاجية، التى تلجئنا باستمرار إلى الخارج.
• • •
منذ أيام اتخذ البنك المركزى المصرى حزمة قرارات هامة، غرضها استهداف التضخم والقضاء تدريجيا على الفجوة المتسعة بين سعرى صرف الدولار الأمريكى فى السوقين الرسمية والموازية. القرارات كما سبق أن ناديت بها تدور حول موجة عنيفة من التشديد النقدى (عنيفة لأنها تأخرت) ، برفع أسعار الفائدة 600 نقطة أساس دفعة واحدة، وطرح شهادات بنكية بعائد استثنائى، وتخفيض سعر صرف الجنيه المصرى أمام الدولار بنحو 60% مع وضع سقف مرحلى لا يزيد على 50 جنيها للدولار فى ظل تعطش شديد للأسواق. هذا السقف المرحلى أتوقع أن ينخفض تدريجيا، بعدما تعوض المصارف جانبا من خسائرها فى تدبير العملة خلال الفترة الماضية، وبعدما تخف حدة النهم الدولارى، حتى تصل الأسعار إلى المستوى التوازنى الأكثر تعبيرا عن سعر الصرف الحقيقى الفعال، وتماثل القوى الشرائية. لست هنا فى موقع الرجم بالغيب، أو التنبؤ غير المدعوم بنماذج قياسية، كتلك النماذج التى كنت أبنيها لدى عملى سابقا فى مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، وكنت حينها أدير وحدة للتنبؤ بسعر الصرف. ولكن المؤشرات الأولية للعقود الآجلة غير المسلمة، وبعض المعاملات المؤيدة بالسيولة فى أسواق الصرف الموازية، تشير إلى مستوى توازنى أقل بنحو 20% على الأقل من السعر السائد فى اليوم الأول للتحريك.
السلطة النقدية فى مصر لم تتخذ تلك القرارات الجريئة إلا بعدما توافر لديها سيولة دولارية مناسبة، تعطى مساحة لتحريك سعر الصرف بصورة أكثر مرونة، هى أقرب إلى مفهوم الربط المرن soft peg. ولأن تلك الحصيلة مرتبطة بتدفقات رءوس أموال أجنبية فى مشروعات بعينها، فلا أمل فى أن تستدام بمعزل عن سياسات مالية وتجارية انكماشية مكملة، وسياسات تصحيح هيكلى، تؤسس على تعميق المكون المحلى فى الإنتاج الصناعى والزراعى، وتوطين العديد من الصناعات التى تستنزف العملة الصعبة.
انكماش السياسة المالية لا يجوز له أن يتطرق إلى الإنفاق ذى الطابع الاجتماعى، المطلوب لتعويض الشعب عن بعض ما يعانيه من أزمات اقتصادية طاحنة، وللحد من وقوع المزيد من المصريين تحت خط الفقر المدقع. لكن أولويات الإنفاق يجب أن تستبعد الكثير من المشروعات الكبرى، التى تستنزف الموارد الدولارية الشحيحة، وتتطلب إنفاقا متزايدا للإنشاء والصيانة، يفوق بمراحل أى عائد فى الأجل المنظور (ما يطلق عليه مشروعات الفيل الأبيض) . لا يكفى هنا أن يشير السيد رئيس الوزراء إلى توقف المشروعات غير المكتملة التى لم ينفق عليها 75% من التكاليف وتلك التى لم تبدأ بعد، وذلك لسببين: أولا لأن استكمال المشروعات التى استهلكت 75% من تكاليف إنشائها لمجرد أنها أوشكت على الاكتمال لا يعكس جدوى تلك المشروعات، بقدر ما يعكس ما يسمى مغالطة التكاليف الغارقة Sunk Cost Fallacy وتتمثل فى اتجاه صاحب المشروع نحو استكماله، لمجرد أنه لن يتمكن من استعادة ما أنفق عليه، حتى لو لم يكن المشروع ناجحا. نفس المثال يشبه دخولك السينما لمشاهدة فيلم طويل وممل، وبعد أن ينقضى أكثر من نصف زمن الفيلم لا تريد أن تغادر دار العرض لأنك قد خسرت بالفعل جانبا كبيرا من وقتك!.
السبب الثانى الذى يجعلنى لا أكتفى بهذا الإعلان الخاص بالتوقف عن بعض المشروعات الكبرى، هو أن الحكومة مطالبة بإعداد جدول لكافة المشروعات المشمولة بالقرار، مع توضيح حجم الوفر الدولارى المصاحب لكل إرجاء أو إيقاف، الأمر الذى يعطى دلالة واضحة على حجم الضغط الكبير الذى ستساهم الحكومة فى رفعه عن سوق العملة الصعبة خلال مدى زمنى معلوم.
كذلك تنصح الحكومة بتبنى سياسة محفزة للإنتاج ذى المكون المحلى الكبير، وذى «الفائض» التصديرى الضخم. كثير من المشروعات التى يروج لها القطاع الخاص والحكومى باعتبارها مشروعات مصدرة، هى بالفعل مصدرة بمليارات الدولارات، لكنها تستورد مدخلات ومكونات أجنبية بقيمة أكبر كثيرا من تلك التى تحصلها من التصدير! إذن صافى التصدير هو الأهم، ونسبة الإحلال محل الواردات هى المعتبرة فى هذا السياق.
• • •
التشديد النقدى وسياسة الصرف الأكثر مرونة يجب أن يصاحبهما أيضا تحرك جاد لعدم مزاحمة القطاع الخاص من قبل المؤسسات المملوكة للدولة. التزام الدولة بالتخارج المعجل من القطاعات التى تزاحم فيها المشروعات الخاصة، الأكثر كفاءة والأقل استنزافا لموارد الدولة وحصيلة النقد الأجنبى، يفسح المجال أمام تدفقات رءوس الأموال من الخارج. تلك التدفقات يفضل أن تأتى فى صورة استثمارات مباشرة فى قطاعات منتجة وذات تشابكات كثيرة مع مختلف القطاعات المساهمة فى الناتج المحلى الإجمالى للدولة. لا مانع أن تدخل تلك التدفقات أيضا فى صورة استثمارات حافظة (غير مباشرة) فى سوق المال، خاصة فى الأسهم وليس أدوات الدين، ومع زيادة تراكم التدفقات يسهل تحول الاستثمار غير المباشر إلى استثمارات مباشرة، باستحواذ المستثمر الأجنبى على حصص كبيرة، ثم حاكمة فى شركات متداولة بالبورصة المصرية. ولا بأس فى الأجل القصير من الاعتماد على تدفقات الأموال الساخنة، مع البناء على التحسن الوشيك للتصنيف الائتمانى، الذى بدأت إرهاصاته مع إعلان وكالة «موديز» تحول نظرتها المستقبلية للاقتصاد المصرى إلى الإيجابية، مدعومة بقرارات البنك المركزى وصفقة رأس الحكمة.
ومع تدنى معدلات الادخار المحلى فى مصر بما لا يزيد على 8% من الناتج المحلى الإجمالى، فإن الاستثمار الأجنبى يظل ضرورة قصوى لتحقيق معدلات نمو اقتصادى مستدامة، وغير محفزة بالاستهلاك وحده كما هى الحال اليوم (الناتج المحلى معزز بالاستهلاك بنسبة 80% تقريبا) . ولأن السياسة النقدية المتبعة اليوم مؤلمة ومحدودة الأثر فى الأجل الأطول، فإنه لا يمكن التعويل عليها وحدها للخروج من الأزمة. بل إن عدم استكمال تلك القرارات بعدد من السياسات التى أشرنا إلى نماذج منها، فضلا عن السعى لإعادة هيكلة بعض الديون الأجنبية الرديئة، من شأنه أن يدخل الاقتصاد المريض إلى غرفة العمليات، ثم القيام بتخديره، دون إجراء أية عملية!.. سرعان ما يستيقظ المريض ليجد نفسه أكثر إرهاقا وأشد تألما مما كان. استعادة الثقة فى الأسواق مقدمة على استعادة تدفقات رءوس الأموال. تلك الثقة لن تعود إلا بتغير أولويات الإنفاق، وتخصيص الموارد، وربما بعض الوجوه المهيمنة على المشهد الاقتصادى فى مصر.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات