فى 2003، عارضت الحكومة الألمانية، وكانت تتشكل آنذاك من الحزب الاشتراكى الديمقراطى شريكا كبيرا وحزب الخضر شريكا صغيرا، الغزو الأمريكى ــ البريطانى للعراق. حينها، ارتفعت أسهم ألمانيا الموحدة بين الشعوب العربية والإسلامية ونُظر إليها كدولة غربية كبيرة فى مقدورها الاستقلال بقرارها فى السياسة الخارجية عن نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية، القوة العظمى.
وفى أعقاب ذلك، فتحت أبواب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وعموم العالم الإسلامى للتعاون الدبلوماسى والسياسى مع ألمانيا ونشطت برلين خارجيا فى ملفات هامة ومؤثرة كالمسألة النووية الإيرانية والسياسة والشراكة الأورو ــ متوسطية (والمقصود بها التعاون بين دول الاتحاد الأوروبى ودول شرق وجنوب البحر المتوسط) وإعادة بناء مؤسسات الدولة والمجتمع فى العراق وأفغانستان بعد كارثة الغزو الأمريكى وما تلاه من صراعات أهلية طويلة المدى. فتحت الأبواب العربية والإسلامية أمام الدبلوماسية الألمانية وتغيرت إيجابيا الصورة النمطية لألمانيا كعملاق اقتصادى وتجارى وتابع سياسى للإرادة الأمريكية فيما خص جميع القضايا الدولية غير المتعلقة بالقارة الأوروبية.
• • •
منذ تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغربية) فى ١٩٤٩، اتبعت الحكومات الألمانية المتعاقبة (وشكل معظمها ائتلافات قادها إما الحزب المسيحى الديمقراطى أو الحزب الاشتراكى الديمقراطى مع أحزاب صغيرة) خارج أوروبا خطا دبلوماسيا وسياسيا تابعا للولايات المتحدة الأمريكية. فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التزمت ألمانيا بتنفيذ سياسات جوهرها التأييد الأحادى، اقتصاديا وتجاريا وماليا وعسكريا وبشدة، لدولة إسرائيل. وفى هذا الصدد، كان دعم جمهورية بون (كما كان يطلق عليها) لإسرائيل عسكريا يخالف النصوص الدستورية والقانونية المعمول بها حينها والتى كانت تمنع تصدير السلاح الألمانى إلى مناطق الحروب والنزاعات العسكرية. بل وكانت الإدارات الرئاسية الأمريكية فى الخمسينيات والستينيات، خاصة إدارة ليندون جونسون فى أواسط الستينيات، تحيل تصدير السلاح إلى إسرائيل على ألمانيا عندما يتعذر عليها هى تقديمه بسبب المعارضة العربية والإسلامية. وقبيل حرب ١٩٦٧، تسببت واحدة من صفقات السلاح الألمانى (وكانت الأسلحة المقدمة هى ألمانية وأمريكية المنشأ) فى قطع مصر لعلاقاتها الدبلوماسية مع جمهورية ألمانيا الاتحادية بسبب انحيازها الصارخ واتجهت القاهرة إلى الاعتراف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية).
أما داخل أوروبا، فقد اضطلعت ألمانيا الاتحادية، وعلى خلاف تبعيتها الصارخة للسياسات الأمريكية خارج القارة العجوز، بأدوار دبلوماسية وسياسية مستقلة نسبيا مكنتها من صياغة سياسة الوفاق والتعايش السلمى بين الكتلتين الغربية والشرقية (وكانت الثانية يقودها الاتحاد السوفييتى السابق) ومن إبعاد شبح المواجهات العسكرية المباشرة وبالوكالة بين الكتلتين ومن إتمام مصالحات تاريخية بين ألمانيا وجيرانها فى الوسط والشرق الأوروبى (خاصة بولندا) بعد جرائم النازيين فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين.
وعلى الرغم من الصعود الاقتصادى المبهر طوال النصف الثانى من القرن العشرين، استمرت ألمانيا على ذات المنوال؛ تبعية للولايات المتحدة عالميا وفى أوروبا استقلالية مؤثرة (بل وملهمة عالميا مع المستشار الأسبق فيلى برانت صاحب الركعة الشهيرة أمام النصب التذكارى لضحايا الهولوكوست فى العاصمة البولندية وارسو).
• • •
غير أن الجمهورية الجديدة التى انبثقت عن وحدة الألمانيتين فى ١٩٩٠ صارت تدريجيا القاطرة الاقتصادية والسياسية الأهم للاتحاد الأوروبى واضطلعت بأدوار رئيسية فى ضم دول شرق ووسط القارة إلى الاتحاد وفيما خص الوحدة المالية بين الدول الأوروبية. وتدريجيا عبّر صعود ألمانيا الموحدة عن نفسه خارج أوروبا، وتدريجيا أيضا اتضحت معالم سياسة أوروبية مستقلة نسبيا عن التبعية للولايات المتحدة فى القضايا الدولية، وتدريجيا تبلورت مؤسسات للسياسة الخارجية الأوروبية وسُمى منسقون لها. وكانت ألمانيا، بقوتها الاقتصادية والتجارية والمالية وبنفوذها الدبلوماسى والسياسى بعد وحدتها وبالعملة الأوروبية الموحدة التى قادتها، من بين البلدان الأوروبية الأكثر نفوذا فى مجالات السياسة الخارجية والقضايا الدولية.
عندما انقسمت الدول الأوروبية إزاء الغزو الأمريكى ــ البريطانى للعراق، حظى الألمان الذين رفضوا الغزو وأدانوه باحترام وتأييد الشعوب العربية والإسلامية التى لم تقتنع أبدا لا بحديث إدارة جورج دبليو بوش عن الأسلحة النووية التى يمتلكها صدام حسين ولا بمقولات نشر الديمقراطية التى روجت دوائر المحافظين الجدد لها فى واشنطن. قدرت الاستقلالية الألمانية طوال العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، وتضاعف التقدير عربيا وإسلاميا عندما فتحت المستشارة السابقة أنجيلا ميركل أبواب ألمانيا أمام اللاجئات واللاجئين السوريين الفارين من جحيم الحرب الأهلية بين ٢٠١٥ و٢٠١٧ ولم تخضع لابتزازات اليمين المتطرف والشعبوى الذى كان يكسب أرضا واسعة فى السياسة الأوروبية.
اليوم، تنهار الصورة الإيجابية لألمانيا التى تقودها حكومة مشكلة من الحزب الاشتراكى الديمقراطى وحزب الخضر وحزب الأحرار الديمقراطيين بسبب الصمت الرسمى على استمرار الحرب فى غزة وبسبب تغير مواقف الأحزاب السياسية التقليدية كالمسيحيين الديمقراطيين والاشتراكيين الديمقراطيين بشأن قضايا الهجرة واللجوء وخضوعهم لابتزاز اليمين المتطرف.
والحقيقة أن ظاهرتى الصمت فيما خص غزة وهيمنة المواقف السلبية من الأشخاص المهاجرين واللاجئين لا تقتصران أوروبيا على ألمانيا وحدها. فقد تراجعت مواقف الدول الأوروبية من إصدار إعلان البندقية ١٩٨٢ الذى أقر حق تقرير المصير للشعب الفلسطينى، وحق إقامة الدولة المستقلة على حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧، ومن الإسهام فى الجهود التفاوضية لإحلال السلام فى الشرق الأوسط، وحل الدولتين بين إسرائيل وفلسطين طوال عقدى التسعينيات والعقد الأول من الألفية الجديدة، إلى المراوحة بين الدعم العسكرى والمالى لإسرائيل وبين الصمت على أكثر من أربعين ألفا من الضحايا الفلسطينيين وعلى دمار تشبه مشاهده مشاهد المدن الأوروبية المدمرة فى الحرب العالمية الثانية.
تبدلت دبلوماسية الدول الأوروبية من إطلاق جهود الوساطة والإعلان عن مبادرات للتفاوض والوساطة والبحث عن سبل للتهدئة فى الأراضى الفلسطينية المحتلة وتقديم المساعدات الإنسانية والاقتصادية والمالية، تبدلت إلى الاكتفاء بجولات خارجية محدودة بين عواصم الشرق الأوسط ولا طائل من ورائها لبعض وزراء الخارجية الأوروبيين والعجز عن طرح مبادرة واحدة لوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب.
• • •
صار مشروعا التساؤل عما حدث للساسة الأوروبيين الذين كانوا يصنفون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منطقة جوار ذات أهمية استراتيجية كبيرة ودوما ما سعوا إلى حل صراعاتها واحتواء توتراتها حتى وإن أخطأوا الحسابات كما فعلوا فى سوريا وليبيا بين ٢٠١١ واليوم. أغلب الظن أن أوروبا المنسحبة من الحرب فى غزة لا تجد بين بيروقراطية اتحادها فى بروكسل وبين دبلوماسياتها الكبيرة فى باريس وبرلين ولندن من التوافق الفعلى والموارد المتاحة ما يمكنها من إضافة أمور فلسطين وإسرائيل إلى دورها فى الحرب الروسية ــ الأوكرانية.
تدعم أوروبا أوكرانيا عسكريا وماليا، وتواجه روسيا اقتصاديا وتجاريا متحملة كلفة باهظة فيما خص واردات الطاقة وتراجع معدلات النمو الاقتصادى، وتخصص المزيد فى موازناتها للإنفاق الدفاعى والتسليح، وتستثمر الكثير من الجهد التفاوضى فى تنسيق المواقف المتضاربة بين دول كألمانيا التى تواصل إرسال السلاح والمال إلى أوكرانيا وتعلن عن حتمية احتواء روسيا، وبين دول كبولندا والمجر ورومانيا التى تعارض مواصلة التورط فى حرب خاسرة تقترب فيها روسيا من تحقيق كل أهدافها (السيطرة على شبه جزيرة القرم دون منازعة، وضم الأراضى ذات الأغلبيات العرقية فى شرق أوكرانيا، والمنع الفعلى لانضمامها إلى حلف الناتو).
تستحوذ الحرب الروسية ــ الأوكرانية، إذا، على طاقات وموارد أوروبا وتستنفذ جهودها الدبلوماسية فى التنسيق بين دولها لمواصلة اتخاذ مواقف جماعية، حتى وإن غاب عن تلك المواقف البحث عن حلول تفاوضية للحرب والضغط على طرفيها للحوار. ولأن الحرب المشتعلة فى قارتهم تتصدر قائمة أولوياتهم، لا يريد القادة الأوروبيون التحرك فيما خص الحرب فى غزة على نحو يتجاوز حدود دبلوماسية البيانات الرسمية والاهتمام عن بُعد وبعض الجولات الخارجية التى لا تسفر عن شىء يذكر.
من جهة أخرى، ثمة ارتباط واضح بين الانسحاب الأوروبى من الشرق الأوسط وبين تقلبات السياسات الداخلية فى عديد دول الاتحاد الأوروبى وفى بريطانيا التى تواجه صعود اليمين الشعبوى، وتعانى من تحول قضايا الهجرة واللجوء إلى هم ضاغط باستمرار على الحكومات والمعارضات. يبحث القادة الأوروبيون عن بناء التوافق داخل مجتمعاتهم بين مجموعات سكانية متنوعة بداخلها من يرون أن حق إسرائيل فى الدفاع عن أمنها يتجاوز كل اعتبار آخر وبين صفوفها من يدافعون عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطينى، ويحدث كل هذا بينما اليمين المتطرف والشعبوى يعادى اليهود والجاليات المسلمة وذوى الأصول العربية ويهاجم الأشخاص المهاجرين واللاجئين دون تمييز.
وبين هذا وذاك، تبتعد أوروبا خوفا على استقرار مجتمعاتها وسلمها الأهلى وتجنبا لأزمات هوية حادة ليس سوى لليمين الشعبوى أن يوظفها ويستفيد منها.
أستاذ علوم سياسية، بجامعة ستانفورد