«جيران».. عبثية الحرب والكراهية بعيون طفل - خالد محمود - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 3:32 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«جيران».. عبثية الحرب والكراهية بعيون طفل

نشر فى : الثلاثاء 14 ديسمبر 2021 - 8:00 م | آخر تحديث : الثلاثاء 14 ديسمبر 2021 - 8:00 م
ما تزال السينما تتلمس تأثير الأطماع السياسية ومخططاتها وحروبها على علاقات البشر وحياتهم، ربما تأتى الأفلام جيدة على المستوى الفنى، لكن الطرح الفكرى لها ربما يشوبه جزء من التشوش وهى تسعى لوصول الرسالة.

ويأتى فيلم «جيران» للمخرج الكردى السويسرى مانو خليل الفائز بجائزة أفضل سيناريو بمهرجان البحر الأحمر، ليصور بمزيج من السخرية والفكاهة عبثية تلك الحرب بعيون طفل، وقد تمكنت طفولته فى النهاية من العثور على نقطة ضوء وسط عالم شائك من الديكتاتورية والواقع الدرامى المظلم.

أحداث الفيلم تدور فى إحدى القرى الصغيرة السورية الواقعة على الخط الحدودى الفاصل بين سوريا وتركيا أوائل الثمانينيات؛ حيث يلتحق «سيرو» وعمره ٦ سنوات بالمدرسة لأول مرة، وهو فضولى مثل البراءة، ويصل إلى المدرسة أستاذ جديد يمثل حزب البعث هدفه أن يُحيى روح الرفيق العربى القومى بين الأطفال الأكراد فى سبيل إقامة الفردوس البعثى على وجه الأرض، يرفع الأستاذ العصا فى وجه طلابه محرّما عليهم الحديث بلغتهم الكردية، وضرورة التحدث بالعربية، وبدلا من ذلك عليهم أن يبجّلوا الأسد، القائد الخالد، ويلعنوا الصهيونية واليهود، تزعج الدروس وتربك سيرو، لأن جيرانه القدامى هم عائلة يهودية محبوبة يقضى معهم أوقات سعيدة، فهذه الدروس تُوقع الطفل الصغير فى حيرة من أمره وهو يستذكر جيرانه العائلة اليهودية الطيبة. بل إن عم سيرو يخفى فى قلبه مشاعر الحب لابنة تلك العائلة.
يصور المخرج مانو خليل طفولة استطاعت أن تجد لحظاتها الجميلة فى قلب الدكتاتورية والدراما القاتمة فى إطار كوميدى هزلى جميل. يهوى سيرو فعل المقالب بأصدقائه ولو أنها قد تكون خطيرة أحيانا، ويحلم أن يقتنى تلفازا كى يستطيع أن يشاهد الرسوم المتحركة. ولكن أحلامه وبراءته تنكمش وهو يرى الكبار من حوله محطّمين تحت بطش الاستبداد والعنف والقومية التى تُحيط بهم من كل مكان.
الفيلم مستوحى من التجارب الشخصية للمخرج، لذا تربط ذكرياته المرّة الحلوة المأساة السورية بالحاضر، حتى وإن كان التاريخ قديما؛ حيث كتب سيناريو الفيلم منذ أكثر من ربع قرن وهو يحاكى الواقع السورى فى عهد حافظ الأسد.
فالفيلم يحكى بلغة سينمائية شفافة وأسلوب فكاهى ساخر وحزين عن ديكتاتورية الأسد وهيمنة البعث على كل مفاصل الحياة، وتدميره لحقبة تاريخية جميلة كان الناس يعيشون فيها بتنوعهم الدينى والطائفى والعرقى مع بعضهم بعضا كجيران، ويستعرض قصة الطفل الكردى «سيرو» الذى عليه أن يتعايش مع تحولات عالمه الصغير الذى يتغير بشكل جذرى بسبب تعاليم البعث القاسية.
وتبدو السينما بالنسبة للمخرج مسألة «نضالية» ــ إن صح التعبير ــ للدفاع عن حقوق المضطهدين الأكراد وغيرهم من القوميات والأديان، فهو ينتمى إلى مكون من مكونات المجتمع السورى (الأكراد) ولديه ثقافة ولغة كانتا محظورتين فترة هيمنة حزب البعث، وعاش الأكراد خلالها اضطهادا كبيرا، ويستعيد خليل جوانب من هذا الاضطهاد على المستوى المدرسى حيث كان المعلمون البعثيون فى معظمهم ــ يضربون التلاميذ إذا كانوا يتحدثون فيما بينهم باللغة الكردية التى كانت ممنوعة حتى مع شقيقه الذى كان يدرس معه بالمدرسة.
وشارك فيلم «جيران» فى المسابقة الرسمية لمهرجان شانغهاى وحصل على جائزة نقاد السينما فى سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة الأمريكية التى تقدم لفيلم سينمائى.
صور المخرج منازل «جيران» بسيطة وقاسية كما لو كان عالما مصغرا، تحافظ عليه قسوة وعناد مجتمع متزايد التطرف، يعيش السكان معًا بسلام، ينظرون إلى اختلافاتهم على أنها صورة لا غنى عنها يتم تمثيلهم فيها جميعًا بشكل متناغم لسلوك ثابت لحياة يومية، ونحن نتتبع رحلة شيرو، يصدم برحيل والدته التى تموت من جرح طلق نارى أطلقه جندى «عن غير قصد» يقوم بدوريات على حدود البلاد، ليجد أن عالمه الصغير بالكامل قد أحدث ثورة داخله لأنه لم يجد من يأخذ بالثأر، ونرى فى خط موازٍ نظرته الرافضة للتعليم المتطرفة (أو بالأحرى التلقين) التى أطلقها المدرس الجديد الذى تم إرساله من دمشق لتولى مقاليد المدرسة العربية ويتعارض الطابع العبثى للقومية التى يلتزم بها المعلم مع التعايش السلمى بين سكان المدينة (الذى يتجاوز الدين والجذور) ويقضى على اليقينات الصغيرة التى يتمتع بها سيرو وزملاؤه فى الفصل.
فجيران سيرو اليهود عجوزان وابنتهما العانس «هانا» هى بدورها لديها مشاعر تجاه عم سيرو مع تزايد معاداة السامية التى ترعاها الدولة، أصبح الوضع محفوفًا بالمخاطر بشكل متزايد بالنسبة للأسرة اليهودية. ومع ذلك، فقد تم تجريدهم من الجنسية السورية بصفتهم يهودًا وأصبحوا غير قادرين على مغادرة البلاد.
عندما أطلق حرس الحدود التركى النار على والدة سيرو بطريق الخطأ، لجأوا إلى والد سيرو لمساعدة هانا على الفرار باستخدام أوراق الزوجة المتوفاة. بعد سنوات، يقبع سيرو مع عائلته فى مخيم للاجئين العراقيين عندما تأتى هانا للبحث عنه.
الفيلم حاول إقحامنا داخل هذا الواقع المعقد من خلال عيون الطفل، من قسوة المدرس وبراجميته الوهمية لكنه لا يفقد حلمه أن تكون قادرًا يومًا ما على مشاهدة الرسوم المتحركة على التلفزيون، أيضا اللحظة التى يسأل فيها المدرس التلاميذ كيف سيقاتلون اليهود وأين يردون بطريقة غير متوقعة وعفوية من خلال لعب دور العسكر والكرامة، وهنا تبرز روح السخرية والكوميديا فى عالم الطفولة الساحر؛ حيث يناقشون المصطلحات التى كررها معلمهم إلى ما لا نهاية، «الصهيونية» و «الإمبريالية»، ويصفونها بأنها مخلوقات خيالية دون أن تكون لديهم أدنى فكرة عما تعنيه.
فى فيلم خليل، تمثل لغة الحرب خطرًا محتملا، لكنها تمثل خطرًا قريبًا غير مرئى، مثل وحش مجهول الوجه ومجهز ومستعد للهجوم. إلى جانب الصور المروعة للفيلم، التى يمكن للمشاهد أن يتخيلها جيدًا، فإن هذا الصمت، هذا الخفاء الواضح وقدرته على حرمان سيرو من طبيعته الأمر الذى يترك أثرًا مخيفًا ويمنح الفيلم فى النهاية عمقًا حقيقيًا، خاصة وهو يرصد الكرامة فى وجه الاستبداد والفساد الحكومى.

أبطال الفيلم عاشوا حالة صدق وتلقانية، «جهاد عبدو» «جلال الطويل» «مازن الناطور» «نسيمة الضاهر» وبعض الفنانين الأكراد مثل «زيرك» و«إسماعيل زاغروس» و«إيفان أندرسون» إلى جانب الممثلة البرازيلية تونا دويك وهى سورية الأصل من حلب ومشهورة فى البرازيل، والطفل «سرهد خليل» الذى مثل دور الطفل شيرو بشكل رائع مثير للإعجاب.

جيران الفائز بجائزة أفضل سيناريو عمل إنسانى مهم يراقب مجتمعه بغنى كبير بينما يتطرق إلى قضية عالمية هى انتشار تلك المنظومة اليهودية فى سماء العالم.. وهم الجيران، الفيلم حصد جائزة لجنة تحكيم النقاد بمهرجان سان فرانسيسكو للسينما اليهودية 2021، وجائزة الجمهور ــ مهرجان بوسطن السينمائى بجانب أفضل سيناريو بالبحر الأحمر السينمائى.
خالد محمود كاتب صحفي وناقد سينمائي
التعليقات