حيرة النائب المحترم.. بين الدين والدنيا - جلال أمين - بوابة الشروق
الثلاثاء 3 ديسمبر 2024 1:49 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حيرة النائب المحترم.. بين الدين والدنيا

نشر فى : الجمعة 16 مارس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الجمعة 16 مارس 2012 - 8:00 ص

يحدث فى مصر بين الحين والآخر حادث مدهش، يصبح حديث الجميع، ويتناقل الناس تفاصيله وهم لا يكادون يصدقون أن مثله يمكن أن يحدث، وكثيرا ما يجمع الحادث بين سمات المأساة والملهاة. فعلى الرغم من نتائجه المؤسفة وكثرة ضحاياه، فهو من فرط غرابته مثير للسخرية، ومن ثم يجد فيه المصريون (بسبب استعدادهم الفطرى) فرصة رائعة لتأليف النكت.

 

كثيرا ما تنطوى هذه الأحداث أيضا على تلخيص مركز لأحوال مصر والمصريين فى وقت حدوثها، إذ يكون الحادث، فى بعض جوانبه، انعكاسا لحالة السياسة أو الاقتصاد فى ذلك الوقت. ومن ثم يبدو وكأن من المستحيل أن يحدث مثل هذا الحادث قبل الوقت الذى وقع فيه بعشر سنوات مثلا، ولا بعده بعشر سنوات.

 

حدث مثلا فى السبعينيات من القرن الماضى، بعد سنوات قليلة من صدور قوانين الانفتاح، وما صحبها من تضخم جامح قلب حياة المصريين رأسا على عقب، أن انتشرت عمليات الإثراء السريع الذى لا يستند إلى جهد يذكر، كتأجير الشقق المفروشة أو الاتجار فى العملة أو الحصول على توكيلات الاستيراد..إلخ، وإذا بنا نسمع عن حوادث متتالية عن سقوط عمارة سكنية بعد أخرى، على رءوس سكانها، رغم أنها عمارات حديثة البناء، ثم يظهر أن صاحبها أو المقاول الذى بناها استخدم اسمنتا مغشوشا أو اقتصد فى استخدام حديد التسليح استعجالا لتحقيق الثروة بعد أن رأى من حوله يحققون إثراء سريعا بلا سبب.

 

●●●

 

ثم حدث فى الثمانينيات أن زاد معدل التضخم بشدة فقاق بكثير سعر الفائدة الذى تعطيه البنوك على الودائع، واحتار أصحاب المدخرات الجديدة (التى حققوا معظمها من العمل فى الخليج)، أين يستثمرون نقودهم؟، فظهرت ظاهرة جديدة مدهشة عرفت باسم «كشوف البركة»، إذ عمد بعض المحتالين إلى إقناع المدخرين بتسليمهم مدخراتهم مقابل أسعار فائدة خيالية، دون أن يفصحوا عما يستخدمون فيه هذه الأموال حتى يحققوا هذه الأرباح العظيمة، مكثفين بالقول بأن الله تعالى يبارك هذه الأموال، ومن ثم سموا كشوف المودعين «بكشوف البركة»، وصدق المدخرون ذلك لأنهم يرون الأرباح الكبيرة تصلهم بانتظام من عام لآخر، ولسماعهم أن أسماء بعض الكبراء وعلية القوم يفعلون مثلهم فيزيدون هذه الاستثمارات بركة على بركة. ثم ظهر أن الأمر لايزيد على استخدام الودائع الجديدة فى دفع الأرباح لأصحاب الودائع القديمة اعتمادا على أن ودائع جديدة سوف تستمر فى القدوم، طالما استمرت الرعاية الناجحة واستمر سكوت علية القوم عليهم بسبب ضم أسمائهم إلى كشوف البركة.

 

●●●

 

ثم حدث فى أواخر عهد حسنى مبارك أن اشتدت علاقة التزاوج بين رأس المال والسلطة، مما مكن بعض الأفراد من زيادة ثرواتهم أضعافا مضاعفة، حتى شعر البعض بأنهم يستطيعون أن يفعلوا أى شىء يطوف بخيالهم، مهما كان مخالفا للقانون، بسبب ما يملكون من مال واطمئنانهم لحماية السلطة لهم.

 

وقع واحد من هؤلاء فى غرام مغنية جميلة وهام بها حبا، واستطاع أن ينال منها ما يريد ببضعة ملايين من الدولارات، ولكنه غضب عليها بعد ذلك بسبب أو آخر وأراد الانتقام منها، فاستأجر شخصا لقلتها، أيضا مقابل بضعة ملايين من الدولارات، ولكن حدث خطأ بسيط أدى إلى القبض على القاتل وكشف الجريمة. وكانت مفاجأة قاسية للرأسمالى الكبير أن يكتشف أن هناك بعض الأشياء القليلة التى لا يستطيع تحقيقها بالمال.

 

●●●

 

ثم حدثت هذه الحادثة الأخيرة التى لا ينقطع عنها الكلام فى هذه الأيام، بدأت بأن رجلا بسيطا له حظ متواضع من التعليم، اشتغل عاملا فى مصنع نسيج ثم إماما فى مسجد صغير فى إحدى المدن الإقليمية، وأصبح عضوا فى حزب سلفى، ثم رشح نفسه لمجلس الشعب ونجح. ولوحظ أنه كثير الكلام فى مجلس الشعب، ويشجعه على ذلك أن الجلسات يجرى صويرها وإذاعتها بانتظام على شاشة التليفزيون، بعد أن رفض أعضاء المجلس اقتراحا بمنع هذا البث. ولكن لوحظ أيضا أن مواقف هذا الرجل فى البرلمان هى بانتظام من النوع الذى يرضى الممسكين بالسلطة. حتى هذه النقطة لم يكن قد حدث شىء غير معهود، ولكن حدث أن نشرت الصحف أن الرجل ذهب إلى قسم الشرطة ووجهه مغطى تماما بأربطة بحيث لا يظهر من وجهه إلا فتحتان صغيرتان للعينين. وأبلغ أن بعض البلطجية أوقفوا سيارته وضربوه ضربا مبرحا وسرقوا منه مائة ألف جنيه كانت فى السيارة.

 

اهتمت الشرطة بالأمر، إذ إن المعتدى عليه نائب فى البرلمان، وبدأ البحث عن الجناة، كما ذهب رجال الشرطة لأخذ أقوال الأطباء فى المستشفى الذى ذهب إليه الرجل بعد الاعتداء عليه، فإذا بهم يكتشفون حقيقة مذهلة، هى التى تناقلها الناس غير مصدقين. فقد ظهر من كلام الأطباء ومدير المستشفى أن المستشفى هو لإجراء عمليات التجميل، وأن الرجل ذهب إليه بنفسه، وهو خال من أى إصابة، لإجراء عملية تجميل كان قد سبق له الاتفاق عليها، وتتعلق بالذات بتصغير الأنف.

 

تحول الأمر إذن إلى فضيحة، فاعترف الرجل واعتذر، وفصله حزبه، ويبحث مجلس الشعب الآن أمر إسقاط العضوية عنه.

 

●●●

 

السؤال المهم هو: فيم أخطأ الرجل بالضبط؟ عندما قرأت التعليقات وجدت أن كلها تقريبا تعتبر أن جريرة الرجل الكبرى هى الكذب. وأعترف أنى استغربت بعض الشىء من ذلك لأنه لا يبدو لى أن الكذب، بل ولا حتى الكذب الجسيم، يعتبر فى الحياة السياسية إثما كبيرا، لا فى بلادنا ولا فى غيرها من البلاد. السياسيون يكذبون طوال الوقت، ويكتمون الحقيقة باستمرار، ويضخمون الأمور التافهة، ويضربون الصفح عن أمور مهمة للغاية، ويلتزمون الأدب عندما يجب توجيه اللوم الشديد، ويوجهون اللوم الشديد فى أمور تستوجب الصفح. وهذه كلها أنواع مختلفة من الكذب. فما هى بالضبط الخطيئة الكبيرة التى ارتكبها الرجل وتستحق كل هذا العقاب؟

 

قد يقال إن الكذب فى هذه الحالة جسيم، إذ شغل جهاز الدولة والشرطة وكلفها من المال والتعب ما لم يكن له مبرر، إذ ظهر أنه ليس هناك جريمة على الإطلاق، ولكن هل هذه آثار أكثر جسامة مثلا من الآثار المترتبة على إنكار توقيع كشف العذرية على سميرة إبراهيم وست عشرة فتاة أخرى؟ أو هل هى أكثر جسامة مثلا من آثار الإدعاء بأن هناك وثائق تثبت تورط بعض الأمريكيين فى خطة لتقسيم مصر ثم الإفراج عنهم، وتركهم يعودون إلى بلادهم، بمجرد أن طلب الأمريكيون ذلك، وكأن شيئا لم يحدث؟ لا أظن أن خطيئة النائب السلفى تصل إلى هذه الدرجة من الخطورة. أظن أن أهمية الحدث لا تكمن فى واقعة الكذب ولا فى جسامة الكذب، بل تكمن فى أشياء أخرى هى التى تجعل الحدث تعبيرا عن المناخ الذى نعيش فيه، مما يجعل من الصعب تصور حدوثه بسهولة قبل عدة سنوات.

 

فالحالة تدل على حيرة شديدة مر بها النائب المحترم ويمر بها كثيرون غيره من المصريين فى هذه الأيام، وهى باختصار حيرة شديدة بين الدين والدنيا.

 

ففى المناخ الاجتماعى الذى يسود مصر الآن اتجاهان شديدا القوة ولكنهما أيضا متضادان تمام التضاد. اتجاه (أو خطاب) يمعن فى تمجيد الحياة الدنيا ومسراتها، ويدعو الناس إلى التمتع إلى أقصى حد ممكن بالحياة، ويعلى بشدة من شأن المتع الحسية والمادية على حساب أى قيمة معنوية. يشجع على هذا الاتجاه ويدعمه، ليس فقط وسائل الإعلام، بل الأهم من ذلك ما يراه الناس يوميا بأعينهم من أمثلة واقعية تؤكد لهم أنك بالمال تستطيع أن تفعل أى شىء، وأن القانون لا يُحترم، ولا يطبق إلا على من لا مال له، وأن التعليم والثقافة لا أهمية لهما للترقى فى الحياة، وأن الشهادة الجامعية لا أهمية لها دون واسطة..إلخ. فى مثل هذا المناخ يتحول كل شىء تقريبا إلى سلعة، ويصبح كل شىء تقريبا قابلا للبيع والشراء، حتى منظر الوجه. فإذا كان الأنف كبيرا يمكن تصغيره، إذا كان لديك القدر الكافى من المال.

 

ولكن إلى جانب هذا الاتجاه القوى، نما أيضا خطاب لا يقل قوة، ويدعو إلى العكس بالضبط، يقول إنه لا قيمة للحياة الدنيا بالمقارنة بالحياة الأخرى، بل يكاد يقول إنه لا قيمة للحياة الدنيا أصلا. فمتع الحياة الدنيا زائلة، والمهم هو التّعبد المستمر، وبلا انقطاع، وفى سبيل ذلك يهون كل شىء آخر، مراعاة مصالح الناس، أو أداء العمل الذى يكسب منه المرء رزقه ورزق أولاده، ناهيك عن إبداء أى احترام لأى شىء جميل، أو الاحترام الواجب للعلم..إلخ.

 

نحن نعرف الكثيرين فى حياتنا ممن اختاروا الطريق الأول (أى الرضوخ لمتع الحياة الدنيا بلا هوادة). ولكن الطريق الثانى، وهو الأصعب، لا يقدر عليه إلا قليلون. كثيرون مع ذلك، من فضلوا اتباع طريق ثالث، وهو محاولة الجمع بطريقة مدهشة (وغير أخلاقية) بين الطرفين، بالسير قدما فى الاغتراف من متع الحياة الدنيا، والتظاهر فى نفس الوقت بالورع والتقوى. وكلما زاد التظاهر بالورع وزاد التشدد فيه، أصبح من الأسهل الإمعان فى الاغتراف من نعيم الدنيا. ومن قبيل ذلك الإقدام على عملية لتجميل الأنف، مع الانضمام لحزب من الأحزاب السلفية.

 

هذه الحيرة الشديدة بين الدين والدنيا لم تكن شائعة فى مصر مثل شيوعها الآن. إذ إن الدين ظل مدة طويلة فى مصر يفسر تفسيرا يسمح بقسط وافر من التمتع بالحياة، ومن ناحية أخرى لم تصل الدعوة إلى التمتع بالحياة الدنيا قط فى مصر، إلى ما وصلت إليه الآن من شطط وإلحاح. إن هذا يجعلنا لا نستغرب بالمرة أن تتكرر فى مصر أحداث مثل هذا الحادث الأخير المتعلق بالنائب السلفى، وأن يستمر ذلك حتى تستعيد مصر توازنها، ويسود فهم أكثر عقلانية ورشدا لطريقة التعامل مع الدين والدنيا على السواء.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات