(1)
ثلاثة وأربعون عامًا مرت على رحيل شاعر العربية الأكبر صلاح عبد الصبور (1931-1981)، ما يقرب من نصف القرن على وفاته، ومع ذلك فأنا أظن أنه ما زال حاضرًا! ما زال حاضرًا بقيمته كشاعر كبير جدّا بل الشاعر الأهم والأكبر والأبرز فى حركة الشعر المصرى الحديث والعربى الحديث فى النصف الثانى من القرن العشرين! ولا أنسى هنا ما قرأته للناقد الفيلسوف الكبير زكى نجيب محمود «لو سُئل أنصار الشعر الحديث: من هو شاعركم الأول؟ لأجابوا: هو صلاح عبد الصبور» ما زال حاضرًا بسخاء شعره وإيقاعاته ومجازاته ومعانيه ودلالاته! ما زال حاضرًا بمسرحياته الخمس المبهرة التى لم يُكتب بعدها ما يضاهيها أو يتجاوزها فيما أظن! ومن ينسى رائعته المدهشة «مأساة الحلاج» أو صيحته الفاتنة «ليلى والمجنون» أو خياله التجريبى الخلَّاق فى «مسافر ليل»، و«بعد أن يموت الملك»، و«الأميرة تنتظر»! ما زال حاضرًا بنشاطه فى الحياة الثقافية المصرية فى خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضى، بآرائه وكتاباته الثرية الغزيرة، وثقافته المذهلة واطلاعه الواسع، بمتابعاته التى لم تفتر ولم تكل للإبداع العالمى فى الشعر والرواية والقصة والمسرحية والفيلم! ولحسن الحظ فقد وصلتنا أعماله الكاملة فى أحد عشر جزءًا صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب قبل ما يزيد على ثلاثين عامًا، ولما تطبع مرة أخرى منذ مطالع تسعينيات القرن الماضى وحتى وقتنا هذا! ولولا اضطلاع «دار الشروق» قبل سنوات قليلة من إعادة إصدار «أعماله الشعرية» و«أعماله المسرحية» فى مجلدين أنيقين غاية فى الجمال والإتقان (الرسومات الداخلية بريشة الفنان الكبير حلمى التونى والغلاف تصميم الصديق الفنان هانى صالح)، لبعد العهد كثيرًا وطويلًا بين أجيال حديثة النشأة وبين تراث هذا الشاعر النبيل! (2) تعرفتُ على شعر عبد الصبور للمرة الأولى من خلال بعض أعماله التى صدرت فى مشروع مكتبة الأسرة، منذ العام 1995، وفى عام 1998 صدرت مختارات من شعره فى كتابٍ أنيق، غلافه الأخضر عبارة عن بورتريه شخصى لصلاح عبد الصبور بريشة الفنان الراحل جمال قطب، ويضم بين دفتيه مجموعة مختارة من قصائده الجميلة. قرأتُ فى هذه المختارات قصيدة «شنق زهران» وإلى «أول جندى رفع العلم فى سيناء»، وغيرها من قصائده. وتعرفتُ على رائعته الخالدة مسرحية «مأساة الحلاج» (مكتبة الأسرة 1995) التى أسرتنى وبهرتنى وحفظت مقاطع كاملة منها، وقررت بعدها أن أقرأ أى شىء وكل شىء لهذا الشاعر الفذ، وتربع عبد الصبور على قائمة أفضل وأروع الشعراء الذين أحببتهم، وقرأت لهم. وفى الوقت نفسه، قرأت له أيضًا كتابه الجميل الممتع «حياتى فى الشعر» (صدر فى مكتبة الأسرة عام 1996)، لا أذكر كم مرة قرأته أو رجعت إليه، لكنى أذكر جيدًا أنه وقر فى نفسى وذهنى أن هذا هو «الشاعر» بألف لام التعريف، الشاعر الذى استوعب تراث ما قبله وهضمه جيدا، ليخرج بعد ذلك شعره جديدًا مختلفا يحمل من كل ما قرأه شيئا، لكنه غيره على طول الخط. أدركت منذ البداية (بداية تعرفى على صلاح عبد الصبور وشعره مع أقرانه من شعراء حركة التجديد والحداثة) خصوصية العلاقة بين «الشاعر» المبدع وبين موضوع إبداعه «الشعر». تلك العلاقة التى تحدث عنها المرحوم فاروق شوشة قائلًا: لا أظن أن شاعرًا معاصرًا شغلته العلاقة مع «الشعر» بهذا القدر من الوعى والقدرة على التساؤل كما شغلت صلاح عبد الصبور الذى أخلص إخلاصًا نادرًا لفنه الأثير على مستوى القصيدة، وعلى مستوى المسرح الشعرى. (3) سجل عبد الصبور فى «حياتى فى الشعر» ما يجوز أن نطلق عليه «سيرة شاعر»، لكنها سيرة لا تُعنى بوقائع الميلاد وتواريخ الأحداث إلا بالقدر الذى يضىء مسيرة الشاعر والشعر؛ اللحظات التى تفتحت فيها الروح وانتشى فيها الوجدان وتوهج العقل، حينما أدرك أنه مضروب بالشعر، وأن حياته مرهونة بل منذورة لهذا الفن. تميز صلاح عبد الصبور بعمق الرؤية الشعرية وشمولها، فتأملاته فى عوالم الإنسان والطبيعة، وما وراء الطبيعة، فضلًا عن غنائياته ومسرحياته الشعرية تضعه فى الصف الأول من شعراء العالم المحدثين، وتحفر له مكانا هو جدير به بحق بين شعراء العالميين الذين تأثر بهم. كان شاعرًا مثقفًا بحق، مثقفًا من طرازٍ رفيع وعالى المقام حقيقة! فقد استوعب تراث فنه الأثير فى ثقافته الأم (راجع ما كتبه تحت عنوان «قراءة جديدة لشعرنا العربى القديم» الذى نشر فى الجزء التاسع من أعماله الكاملة بعنوان «أقول لكم عن الشعر».. وهذا الكتاب لم أقرأ له نظيرًا بين كتبنا التى تحببنا فى الشعر وتقربه إلينا وتقربنا من جماله إذا استثنينا كتب طه حسين عن الشعر، وبخاصة «حديث الأربعاء» فى جزئيه الأولين) (وللحديث عن شاعرنا الكبير بقية)..