علت وجه رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو وهو يمسك بملف الجاسوس إيلى كوهين ابتسامة تكاد تنطق: «مرحى، لقد قبضنا على تلابيب الذاكرة السورية».
بمساعدة إدارة دمشق الجديدة المرجّح أنها سلّمته الملف كعربون صداقة، أراد نتنياهو تكريس كوهين، ليس كبطل صهيونى، بل كفخ تاريخى، كبّل العقل العربى منذ عقود، عبر روايات مدسوسة وسرديات غير منطقية ترسخ شعورًا انهزاميًا بسهولة اختراق المجتمعات العربية ودوائر الحكم.
يستثمر الإسرائيليون المال والجهد والمهارة فى «أسطرة» المآسى والأمجاد. أيام وطنية وأفلام ومتاحف ونُصُب ومواقع إلكترونية، بل ومؤسسات بحثية كاملة، تنشأ بسرعة ودأب، وتتمتع بالاستدامة. ويلعب اللوبى الصهيونى دورا نشطا فى فرضها كعناصر أصيلة من نسيج الهوية الثقافية، بالتشبيك المستمر مع دوائر اقتصادية واجتماعية فى مختلف دول العالم.
أسطورة إيلى كوهين مثال على نجاح هذا النهج. استغلت إسرائيل هزيمة يونيو 1967 وخصومة نظام حافظ الأسد مع الرئيس الأسبق أمين الحافظ، لتحول الصفعة إلى انتصار، وتنسب إلى جاسوسها اختراقات عجائبية، من نوعية: علاقة خاصة بالحافظ وأسرته، وتسريب إحداثيات وصور وزراعة علامات ساعدت فى الاستيلاء على الجولان، والاقتراب من وزارة الدفاع. وكأن الجناح العسكرى بحزب البعث كان سيسمح لمدنى بتولى تلك الوزارة!
تبعا لذلك سادت فى الأدبيات العربية أكاذيب أقرب لعنعنات المقاهى بلغت أنه كان مرشحا لرئاسة سوريا، دون الاهتمام بجوانب أخرى تنسف تلك الأسطورة، وتضع كوهين فى حجمه الطبيعى كعميل متوسط المستوى قاده ضعف التدريب وتكرار الأخطاء إلى المشنقة فى أرض العدو.
فى أول كتاب عن كوهين صدر عام 1969 «رجلنا فى دمشق» يروى الكاتب إيلى بن حنان على لسانه خلال المحاكمة أن «أهم معلومة عسكرية نقلها إلى إسرائيل كانت مواقع بناء التحصينات فى القنيطرة». والثابت أن من اصطحبه فى هذه الجولة صديقه الضابط الصغير معزّى زهر الدين، نجل شقيق وزير الدفاع السورى عبدالكريم زهر الدين. معلومة تبدو خطيرة للوهلة الأولى، لكن الحقيقة أن كوهين لم يلتق عبدالكريم أبدا، وأن الأخير أُطيح به انقلاب 8 مارس 1963. كما يصعب تصور أن تبقى التحصينات على حالها طوال خمس سنوات فصلت بين تلك الجولة وسقوط الجولان!
وبعيدا عن روايات كيفية ضبط كوهين فى يناير 1965، تتوارى خلف «الأسطورة» حقائق متفرّقة نستقيها من وثائق الموساد وذكريات زوجته المنشورة فى كتب وأبحاث بالعبرية والإنجليزية منها: أنه أعرب فى نوفمبر 1964 لقيادته عن تخوفه من العودة لدمشق، وأنه كان يزيد وتيرة إرسال البرقيات بالمخالفة للتعليمات، وأن بعض معارفه احتاطوا منه لاعتقادهم أنه عميل لدولة عربية بسبب لهجته الشامية غير المتقنة، ولأنه لم ينجح فى خلق عمل مستقر لنفسه يبرر مصدر ثرائه فى مجتمع منغلق وقلق بعد توالى الانقلابات.
يرى مؤرخون أن الخطأ الأكبر لكوهين اجتماعه نهاية 1964 مع الضابط النازى الهارب فرانتس ريدماخر، وقد كانت له بالتأكيد صلات مع أجهزة سورية عبر زميله الأهم ألويس برونر مسئول الجستابو الذى عاش فى كنف النظام الأسدى حتى وفاته عن 98 عاما. لكن يبدو أن «الجاسوس العظيم» كانت له أخطاء أكثر سذاجة.
فى وصيته التى كتبها بالعربية، طلب كوهين من زوجته توصيل قبلاته إلى «بيرو» وهو شقيقه الأصغر أبراهام، الذى مازال على قيد الحياة، وروى لكاتب الجاسوسية ويسلى بريتون أن أحد جيران كوهين، واسمه عادل، ارتاب فيه وأبلغ عنه لحرصه على «شراء المجلة العسكرية» التى كانت تصدر عن وزارة الدفاع ولا يشتريها السوريون أبدا!
تجيد إسرائيل صناعة الأساطير، ونحن نسقط فى الفخاخ طالما خاصمنا اليقظة والبحث الجاد وإرادة المواجهة.