صائد اللحظة - خولة مطر - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 11:32 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صائد اللحظة

نشر فى : الأحد 24 يناير 2016 - 11:45 م | آخر تحديث : الأحد 24 يناير 2016 - 11:45 م
كانت الأنا أكبر من أن تختبئ خلف الابتسامات المتكررة والكلام المعسول وكثير من التلاطف والتذاكى.. لا يمكن للأنا المتضخمة أن تختبئ طويلا خلف كل ذاك الكم من اللطف المصطنع.. كثيرون هم بل أصبحوا الأكثر بين الوفود المتحلقة فوق الموت المتساقط مع حبات الثلج الأولى فى شتاءات العرب القاسية.. تبقى الأنا تختبئ أو تتوارى أحيانا إلا أنها لا تصغر ولا تضمحل أمام معاناة ومأسى الآخرين كما يعتقد البعض. بل إنها هى الأكثر وضوحا حتى على صفحات الألم.. كانوا يقولون فى الكتب الأولى أن زيادة العلم تبعث على التواضع ونكران الذات بل الحذر من الأنا المتضخمة.. إلا أن هذا هو زمن الأنا العالية وخاصة عند فئات بعينها حيث يبدو أحدهم وكأنه قد حرر عكا أو ربما القدس اليتيمة إلا من أطفالها وشبابها..
***

ينتشر هذا المرض المزمن الذى اسمه الأنا أحيانا بين النساء وكثيرا بين الرجال حتما لأنه مجتمع يرسم لهم ملامح الذكورة الحقة.. لأنه مجتمع قسم الأدوار ورسمها حتى أصبح الخروج عن النمط العام للذكر والأنثى شيئا من الشذوذ والتمسك بهم هو الأكثر طبيعية…تبرز الأنا عندما يتحول كل شىء إلى شخصى محض ويتقوقع الأمر ويتحور حول الذات نفسها بعيدا جدا عن الإطار العام للفعل نفسه. يقف الواحد منهم ليستعرض بطولات الزمن الأسواء حتما فى تاريخنا الحديث حيث طفح الزبد وجرف معه كل فضلات السفن العابرة فوق مياه البحر الراكدة. هم بل كثيرون منهم لا يمكن إلا أن يكونوا جزءا مكمل لمثل هذه المرحلة المتدنية فى سقوطها فى الذاتية المطلقة عندما يتحول الفعل، أى فعل، إلى شكل من أشكال العنتريات والبطولات الفردية المطلقة. هنا لا مساحة للجماعة إلا فى تكرار لفظ العائلة حتى على صفة المنظمة والمؤسسة وكأن فى ذلك رفع أى لبس يتلامس معها بحيث تسمو هى فوق كل الرواسب لأنها تحمل لفظ العائلة فى مجتمع لا يعترف سوى بالعائلة كرمز للصمود والبقاء والإرث السديد!!! فيما تحولت العائلة فى مجتمعات أخرى إلى أنماط تختلف جذريا عن المفهوم الضيق لارتباط الدم والسلالة بالولادة.

فمع بقاء كثير من المفاهيم والأنماط وسقوط العديد من القيم السامية فى مستنقع الانحطاط الذى وصلت إليه مجتمعاتنا لا يمكن إلا أن يكون هناك بروز ساطع للأنا البغيضة.. تلك التى تعيد أمجاد تراث كان أو تاريخ أو حدث لم يكن حتى بعضهم أصبح قادرا على لوى عنق الحدث ورسم صورة مغايرة فقط لإرضاء غرور وأنا متضخمة حد السقوط فى متاهات الكذب الأسود. فلا كذب سوى هو !!
***

يقف الواحد منهم ليسرد أحداثا ربما مع اختلاف تسلسلها أو حتى مع حذف أو إضافة الكثير، فقط ليستعرض الدور البطولى والأوحد له فى سرد يشبه الأساطير الرومانية أو العنترية العربية القح. ثم يردد الصورة ذاتها مرة واثنتين وثلاث دون تعب ودون ملل وحتى ربما دون خجل حتى يصدق هو نفسه أو يصدق بعض السذج أو المنافقين الباحثين عن كتف يتسلقون عليها إلى درجات المجد الوظيفى.

بؤس اللحظة التى يقف فيها الواحد منهم عند عتبات الموت الأول. نعم فهناك أنواع من الموت القديم منه ويبقى الأكثر قسوة هو الموت الأقدم.. الموت الأول.. وفيما يحس هو غصبا عنه أحيانا أو بإرادته، النفس الأخير وهو يتسلق الرئة ليلفظ سريعا فتتوقف الحركة ويعلن الموت على المسامع ليقوم هو صاحب الأنا المتضخمة، بفعل يبدو فى مظهره الأكثر تعاطفا وإنسانية إلا أنه لا يبعد كثيرا عن البحث الدائم عن موقف يعزز من تضخم الأنا نفسها. فيمسك باللحظة يكررها على الأسماع سواء فى المؤتمرات والاجتماعات أو بين قرع الكئوس التى ما إن تمتلئ حتى تفرغ..!!! هو لا يغدو أكثر من صائد للحظة التى تعزز من حكايات وقصص تسرد على مسامع جوقة المنافقين أو السذج الذين لا زالوا يصدقون أنه لا يزال هنا وفى هذا الزمن الساقط فى اللحظة، لا يزال هناك نبلاء يرفعون الصخر والحجر لتقديم العون لشخص جائع… لا يزال هناك من يجلس مشدوها بقصص صاحب الأنا المتضخمة رغم أنه قد يكون سمعها للمرة المائة بعد الألف وفى كل مرة يمثل دور الذى يسمعها للمرة الأولى!!!
***

مدهشون السذج والمنافقون، لأنه لولاهم لما بقى هناك جماهير غفيرة لأصحاب الأنا والبطولات الخرافية... هذا ليس سوى زمنهم فلينشدوا الأغانى المقيتة وليكرروا لعب دور البطل الأسطورى فى زمن السقوط المخزى.. ليسرقوا انتصارات وإنجازات غيرهم ليضعوها ضمن النياشين على صدورهم المليئة بالهواء الملوث هو الآخر بتضخم الأنا عندهم. لا يمكن إلا أن يكون صغيرا جدا ذاك الذى يحور ويحول ويصور كل الأحداث وكأنها به وله وبدونه، فلا أحد لا أحد.. كم هو لص صغير لا غير ذاك الذى لا يسرق المال بل يسرق الإنجازات حتى ولو كانت من صنع وجهد وتعب آخرين فضلوا الجلوس خلف النافذة ومراقبة سيول الأمطار وتساقط حبات الثلج وهم يفكرون كيف سيأتى الليل على ذاك الطفل القابع فى خيمته أو الجالس فى بيت تساقطت أحجاره إلا بعضها.. فيما هو يقبض على الحكايات الصغيرة ويعيد تكرارها وربما إضافة بعض الدمع والحركات المؤثرة ربما ويصور بطولات ربما كانت وربما لم تكن. يضيف لها بعض الزركشات اللغوية ويعيد رسم اللحظة حتى تبدو كفيلم هوليودى مثير أو كذاك القديم جدا عندما يستل عنترة العبسى سيفه ويمتطى جواده ويروح يطارد الأشرار!!!! لقد انتهى زمن عنترة ربما علينا أن نخبر ذاك المتقوقع فى أناته المتضخمة، حبيس أحداث كانت وجرفها سيل الأخبار المتسارعة وقد يكون نساها الكثيرون إلا هو الذى لا يملك سواها ليرسم لنفسه هالة متضخمة هى الأخرى.
خولة مطر  كاتبة صحفية من البحرين
التعليقات