نشرت جريدة وطنى المصرية مقالا للكاتب يسرى مصطفى، أوضح فيه العلاقة بين النوع البيولوجى (ذكر أو أنثى) والهوية الاجتماعية فى تشكيل هوية النوع الاجتماعى التى تتكون نتيجة التفاعلات الاجتماعية. من هنا، أشار الكاتب إلى قضية العنف ضد النساء باعتبارها ظاهرة اجتماعية يتصور فيها الرجل أن هويته الذكورية ستتحقق من خلال تعنيف المرأة، لذا حذر الكاتب من خطورة تجاهل هذه التعبيرات والسلوكيات العنيفة فتؤثر سلبا على السلام الاجتماعى... نعرض من المقال ما يلى:
ظهر مصطلح «النوع الاجتماعى» فى أوائل سبعينيات القرن الماضى، وانتشر بشكل كبير فى الخطابات الاجتماعية والنسوية والتنموية وغيرها، ويعنى هذا المصطلح الفروق والتشابهات بين الرجال والنساء من المنظور الاجتماعى، بمعنى أن التصنيف البيولوجى للبشر كذكور وإناث ليس إلا بداية لنظام آخر من التصنيف الاجتماعى بين الرجال والنساء تتكفل به الثقافة وأساليب التنشئة وآليات الضبط الاجتماعى، فهذه العوامل هى التى يتم بموجبها تحديد أدوار الذكور والإناث من حيث ما يجب فعله وما لا يجب، وحتى الشكل الذى ينبغى أن يكون عليه الفرد والقواعد التى ينبغى اتباعها حتى يتم الاعتراف به كرجل أو امرأة. وبالتالى فإن مصطلح النوع الاجتماعى يشير إلى عملية متواصلة من التشكل والتكيف الاجتماعى فى حين أن الجنس ليس إلا حقيقة بيولوجية. وثمة جدل وتفسيرات حول العلاقة بين الجنس (ذكر/أنثى) وبين النوع الاجتماعى (رجل/امرأة) فى تشكيل هوية الفرد أو ما يسمى هوية النوع الاجتماعى.
بشكل عام تتفق التعريفات المختلفة على أن هوية النوع الاجتماعى هى أحد أنماط الهويات الاجتماعية والثقافية والنفسية، ولكنها تختص بكيفية تمثل الرجال والنساء لهويتهم/ن الجنسية والجندرية والتعبير عنها. وتميز بعض الآراء بين البعد الذاتى الداخلى لهوية النوع أى ما يتمثله الشخص وإحساسه الذاتى بكونه ذكرا أو أنثى، وبين بعدها الاجتماعى، أى الطريقة التى يعبر بها الشخص عن وجوده اجتماعيا كرجل أو امرأة فى سياق معين. ولا شك أن هناك دائما عملية تطبيع بين الإحساس الداخلى وطريقة التعبير عن هذا الإحساس، ومع ذلك فإن ما يتمثله الشخص داخليا قد لا يتفق بالضرورة مع طريقة التعبير الاجتماعى، وهنا يبرز الفرق بين الإحساس والأدوار. ففى العالم الاجتماعى ينبغى على الشخص فعل ما يتوقعه المجتمع وليس بالضرورة ما يتمثله أو يشعر به داخليا، ولذلك قد يتحفظ الشخص أو يبالغ عند التعبير عن هويته كذكر أو أنثى، وقد يعبر عن هذه الهوية بطرق متعددة وفق السياقات المختلفة. وبالتالى فإن هوية النوع ليست شيئا يمتلكه الفرد فهى تتشكل فى إطار التفاعلات الاجتماعية وقد تأخذ تعبيرات مختلفة وفق السياقات، فما نراه منها ليس إحساس الشخص بهويته، ولكن طريقة التعبير عنها.
ويعنى هذا أن هوية النوع الاجتماعى، شأنها شأن هويات أخرى، لها جانبها المرئى وجانبها اللامرئى. ويمكن مقارنتها بالهوية الدينية والتى تتضمن كذلك جانبها المرئى واللامرئى، فالبعد الروحى والإيمانى جزء من الهوية الدينية ولكنه غير مرئى، وبالتالى يصعب الحكم عليه، ولذلك عندما يتعلق الأمر بالإيمان فعادة ما نقول «ربك رب قلوب». وثمة بعد خارجى مرئى نسميه «التدين»، أى تعبيرات الشخص وممارساته ومشاركته فى الطقوس الدينية، حيث يسعى الفرد، عن قناعة أو بدون قناعة، إلى الوفاء بما هو متوقع منه من قبل الجماعة الدينية التى ينتمى إليها، وقد يتقن الشخص لعب دور المتدين لأغراض أخرى ليس لها علاقة بما يشعر به داخليا. وبالمثل فإن هوية النوع تتضمن إحساسا داخليا يصعب رؤيته والحكم عليه، ومظاهر خارجية نجدها فى الأزياء والأصوات والتعبيرات والسلوكيات، وهى التى تخضع لأحكام الضبط الاجتماعى. ومن المعروف أن هذه المظاهر الخارجية المرئية هى ما يُعتد به اجتماعيا، فمهما كان الإحساس الذاتى بالهوية الجندرية، فعلى الشخص أن يتصرف وفق ما هو متوقع منه أو منها. وهذا المتوقع هو ما يجعل الهوية الجندرية متجسدة اجتماعيا كأنماط تعبيرية وسلوكية، وهو السبيل للاعتراف الاجتماعى بالشخص كرجل أو امرأة.
كغيرها من الهويات، فإن هوية النوع الاجتماعى ليست هوية منغلقة على ذاتها، لكنها كسيرورة تشكيل وتطبيع وتكيف تكون منفتحة على هويات أخرى دينية وعرقية وطبقية، سواء تعلق الأمر بإحساس الشخص بهويته الجندرية أو بطريقة التعبير عنها. وبالتالى فإن عالم الهويات هذا يسهم فى تشكيل هوية النوع. وكما يسهم فى تماسكها فإنه يسهم كذلك فى إصابة أصحابها بالاضطراب والتوتر، فثمة أشخاص كُثر يشعرون بعدم التوافق النفسى والاجتماعى نتيجة تناقضات هويتهم الجندرية مع المحيط الاجتماعى، وهو ما يعرف فى الطب النفسى بإضطرابات الهوية الجندرية. ومن ناحية أخرى، فإن هوية النوع، شأنها شأن هويات أخرى، ليست سلمية على الدوام، بل على العكس فهى مجال للسيطرة والنزاع والتوتر بين الرجال والنساء، وبين الرجال والرجال، وبين النساء والنساء. كما أن الأشخاص الذين لا يستجيبون لما هو متوقع منهم اجتماعيا يصبحون عرضة للإقصاء والتهميش والعنف. ولعل المشكلة الأبرز التى تفرض نفسها فى هذا السياق هى طبيعة الأنماط التعبيرية والسلوكية المرتبطة بهوية النوع.
• • •
ولا شك أن الحديث الدائر بشأن العنف ضد النساء يرتبط مباشرة بطبيعة تشكل هويات النوع الاجتماعى وطرق التعبير عنها. بل يمكن القول إن العنف المبنى على النوع الاجتماعى هو أحد أساليب تشكيل هذه الهويات فى سياقات معينة. فكثير من الذكور يتصورون أن هويتهم الجندرية تتحقق انطلاقا من العنف وتمثل الإحساس بالقدرة على السيطرة والإيذاء. وقد يحتج البعض بأن النساء أيضا يمارسن عنف ضد الرجال وضد نساء آخريات. وهذا صحيح ولكنه اختزال للمشهد، لأن الصورة تكتمل بحسابات النسبة والتناسب بين عنف الذكور مقابل عنف الإناث، ومسببات العنف فى الحالتين. وتجدر الإشارة إلى أن مخاطر تعبيرات وسلوكيات الهويات الجندرية اقتضت دائما المطالبة بمساحات آمنة للنساء، آمنة من العنف والتحرش والتمييز والابتزاز والوصم، سواء فى المجال الخاص أو العام أو الافتراضى، فى البيت والشارع والمواصلات والمؤسسات. وحتى من يتحيز ضد النساء ويقيد اختياراتهن وحركاتهن فعادة ما يكون مبرره فى ذلك حمايتهن.
يبرهن هذا على أن الهويات الجندرية مصدر خطر، فهى فى حالة تحفز وإغارة دائمة مما يتطلب الحديث عن الأمن والآمان. ولو افترضنا أن هناك مؤشرا للخوف، فإن مؤشر الخوف من السلوكيات المرتبطة بهوية النوع قد يفوق أى مؤشر آخر، بالمعنى الكمى وربما الكيفى، وتحديدا فى السياقات التى لا تُحترم فيها الحقوق والحريات. كل هذا يجعلنا نطرح تساؤلات جدية ليس فقط عن طبيعة المدخلات التربوية والثقافية التى تشكل الهوية الجندرية، ولكن أيضا عن مثيرات ومحفزات ورهانات التعبير عن هذه الهوية اجتماعيا وسلوكيا. للأسف مازلنا نتعامل مع الهوية الجندرية كمسألة أخلاقية عندما نربطها بالاختيارات والسلوكيات الشخصية، ولكننا نتجاهل التعبيرات والسلوكيات العنيفة وحتى المنحطة التى باتت تهدد السلام الاجتماعى والأمن الإنسانى.