هيكل.. 26 مجلدًا وأسطورة - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 11:57 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هيكل.. 26 مجلدًا وأسطورة

نشر فى : الخميس 31 ديسمبر 2009 - 9:10 ص | آخر تحديث : الخميس 31 ديسمبر 2009 - 9:10 ص

فى المساء كنت أتحرك بالهاتف مقاوما دوار السعادة إذا توقفت فى مكانى، فعلى الطرف الآخر كان «الأستاذ هيكل»، وهى مكالمة تطلعت إليها منذ هاتفنى فى الظهيرة المهندس إبراهيم المعلم، كان مع الأساتذة جميل مطر وفهمى هويدى وهانى شكر الله يجرون لقاء لـ«الشروق» مع الأستاذ على هامش زيارة أوباما للقاهرة، ويبدو أنهم استطلعوا رأيه فى «الشروق»، فذكرنى باستحسان ضمن من ذكر، وبروحه غير العادية فى صفائها بادر المهندس إبراهيم المعلم بالاتصال بى ليخبرنى مسرورا بذلك، فظننت أنهم لايزالون مع الأستاذ لهذا طلبت محادثته لأشكره، لكننى فهمت أنهم فى طريق العودة من اللقاء، وتعجب المهندس إبراهيم أن رقم الأستاذ هيكل ليس فى حوزتى، فأعطانى الرقم مع اقتراح بالوقت الأفضل لمكالمته، لكننى تأخرت ساعتين عن ذلك الوقت، فأنا شديد الخجل والتردد والارتباك أمام من أحبهم وأحترمهم، على عكس حالتى تماما مع من هم العكس.

لقد كنت مدركا أننى أحادث أسطورة، أسطورة عالمية نِلْتُ بركتها، وليس فى الأمر أى مبالغة، لأننى قبل أن أكون كاتبا أرانى قارئا تومض له التماعات الكتابة المهمة وهو يقرأ فيستضىء، وهيكل ناثر نجوم عالية فى سماء الكتابة، وأحد الكبار الذين طوروا فن الكتابة فى تاريخ الصحافة، ومن القلائل الذين أنهوا التباسا يقطع ما بين الصحافة والأدب فى عصرنا، فلم تكن نشوتى لثنائه وليدة عاطفة فقط، بل نتاج يقين فى خطورة شهادته، لهذا أود الآن أن أتحدث عنه من زاوية فن الكتابة، برغم أن ذلك يبدو بعيدا عن اهتمامات القارئ العام للصحف، وهو مما ينبغى تقريبه، لا تقليلا من شأن النقد السياسى الذى يُنفِّس عن ضيق الناس بمظالم ومفاسد تخنق أنفاسهم، ولكن لأن إفساح الأفق بشتى أنواع المعارف، ينقل حالة التنفيس إلى تَنَفُّس أرقى وأبقى، وأكثر فعالية فى مسعى التغيير الذى بات ضرورة حياة.

منذ خمسة عشر عاما كنت فى مومباى أجرى استطلاعا لمجلة العربى، وأنا عاشق للهند لأسباب عديدة أحدها أنها «جنة الكتب» بالفعل لا مجرد القول، فقوة وانتشار اللغة الإنجليزية فى الهند جعلتها مرفأ لآخر وأفضل ما يصدر من الكتب فى العالم باللغة الإنجليزية، وفى أبهى فنادقها المسمّى باسم أعجوبة «تاج محل»، توجد مكتبة زاخرة تعرض وتبيع أفضل الكتب العالمية بأسعار أقل من مثيلاتها فى كل الدنيا، وفى صدارة هذه المكتبة جزء مرموق يعرض عشرة كتب مُزكّاة لمِثل هذه المكتبات من لجان قراءة عالمية مرموقة ونزيهة ومسئولة عن اختيار أهم عشرة كتب على كوكب الأرض خلال فترة معينة، وفى قلب هذه الكتب العشرة وجدت كتابا لهيكل، فتسمرت مبهورا وفخورا، وأذهلنى أن كتابة الأستاذ باللغة الإنجليزية مرصعة بتألقاته التعبيرية الخاصة كما فى كتابته بالعربية، وهى مقدرة نادرة التكرار بين من يكتب بلغتين.

من يومها وأنا أزداد إعجابا بالأستاذ وبما يكتبه أو يدلى به، إضافة للرغبة فى الوعى بجوهر إنجازه فى ساحة الكتابة، وهو ما لن أنهى هذا المقال إلا بإيضاحه فى نطاق اهتمامى ككاتب قادم من رحاب الأدب إلى أفق الصحافة، أما كطبيب نفسى فإننى كلما رأيت الأستاذ أظل أتأمله، وتترجع فى خاطرى مقولة كارل جوستاف يونج: «فى النهاية، ينال كل إنسان، الوجه الذى يستحقه»، فبينما يكبر كثير من الناس فى العمر فيتعفنون داخل أزيائهم المتصابية وتحت أصباغ شعورهم والماكياجات الخرقاء، يتألق هيكل عقلا وحضورا ووسامة، بلا أصباغ ولا تنازلات، ولا ترهل جسدى أو روحى.

فى قلب موضوع الكتابة، ثمة إشكالية لم ينتبه كثير من النُقاد إلى وصولها الفعلى إلى مرفأ آمن، وهى الفجوة بين الصحافة والأدب، فهناك عدد قليل من كُتّاب البشرية المعاصرين، بعضهم أدباء كبار وبعضهم صحفيون كبار، أقاموا فوق هذه الفجوة جسرا للتواصل، فكان الامتزاج المدهش بين الصحافة العالية والأدب الرفيع، وهيكل أحد هؤلاء الكبار القليلين، أما الطريق الذى سلكوه لتحقيق هذا الإنجاز، فهو فى الجانب الصحفى: انتهاج السرد أو الحكى فى عرض الموضوع وخباياه، والوعى بالبناء الدرامى للنص كله، والصعود باللغة إلى نوع من البلاغة الموجزة والمشرقة، فانطلقت موجة من الكتابات الصحفية الكبرى تمزج ما بين فن القصة والرواية فى التشويق والحبكة، وفن الصحافة فى الاستقصاء والبحث والمقابلات الحية، وتُوِّجَت هذه الموجة بما يسمى فى لغة الصحافة «التحقيق المُعمّق»، وفرسانه صحفيون كبار فى العالم، منهم: «سيمور هيرش» الذى فضح الإجرام الأمريكى فى فيتنام بتقصى حقائق مذبحة ماى لاى، و«بوب ورد» و«كارل بيرنستين» كاشفا فضيحة ووترجيت، «ورون سسكند» الذى عرّى قبح بوش والمحافظين الجدد، و«باتريك سيل» الذى نزع القناع عن مخاتلات حلف الأطلنطى فى البلقان وألاعيب الغرب فى منطقتنا، ومحمد حسنين هيكل الذى قدّم عبر كتاباته أكبر وأخطر شهادة مؤصلة عن نصف قرن عاصف من عمر مصر والعالم العربى، والعالم المتماس معهما.

أما على الضفة الأخرى من نهر الكتابة، فقد بادر أدباء كبار باستلهام حس وفنون الصحافة فى إنجاز نصوص هى الوجه الآخر للتحقيق المعمق، وصك لها الأديب العالمى «ترومان كابوتى» عام 1966 تسمية «الرواية غير الخيالية» ليصف كتابه «مع سبق الإصرار» الذى كان صياغة قصصية لتقصيات دقيقة وغزيرة لأطراف جريمة قتل متسلسل جرت وقائعها عام 1959 فى الغرب الأمريكى. بعد ذلك تدفق تيار ما سُمّى «القصص التسجيلية» وهى أعمال مشيدة على قصص حقيقية صيغت دقائقها صياغة أدبية مُحْكَمة، ودخل على خط هذه الأعمال صحفى أمريكى تحول إلى الأدب هو «توم وولف»، فأطلق على أعماله المنتمية لهذا التيار «الصحافة الجديدة»، ثم كانت هناك تسمية أحدث هى «رواية الحقائق القصصية» Faction (تمييزا لها عن روايات وقصص الأنماط الأدبية المألوفة التى يُطلَق عليها Fiction). وفى رأيى أن رواية الحقيقة القصصية هذه هى اللمسة الأحدث فى الأدب التى استفادت من فن الصحافة الاستقصائية، وأزعم أن أعمالا أدبية شهيرة كانت نماذج للتعبير عن هذا الامتزاج الخلاق، منها على سبيل المثال الأوضح والأشهر «خبر اختطاف» لجابرييل جارثيا ماركيز.

إننى أرى مجلدات الأستاذ هيكل الستة والعشرين التى ضمّت إنتاجه فى السنوات الأربعين الأخيرة، كعمر زاخر من الكتابة، وبقدر ما فى هذه الكتابة من تأريخ وتوثيق وكشوفات باهرة ورؤى ثاقبة وتحليل واستشرافات سبقت عصرها، وهى جميعا وجوه تحتمل الاتفاق والاختلاف، فإن الذى لا يختلف فيه أى فاهم عادل، هو شموخ هذا البناء الفنى لكاتب مصرى أسهم مع نفر قليل من عمالقة الكتابة فى العالم فى تجسير الفجوة بين الصحافة والأدب، فاستفادت الصحافة بمزيد من الجاذبية، وتجددت حيوية الأدب واتسعت شعبيته، وليس هذا محض زهو محلى برجل من بلدنا، فثمة شهادات عالمية أكدت قيمته، منها ما جاء فى «النيويورك تايمز» عام 1971 ونصه «إنه من الممكن أن يكون محمد حسنين هيكل أقوى صحفى فى العالم»، ومنها كلمات السيدة «سار ميللا بوز» والتى أكد عليها اللورد «كريستوفر باتن»، فى تقديم الأستاذ هيكل لإلقاء محاضرته الشهيرة فى جامعة أكسفورد: «يسعدنا أن يكون ضيفنا اليوم شخصا مقروءا للعالم أجمع هو أسطورة حية فى عالم الصحافة».

نعم أسطورة، وكم نحن محظوظون لأن بيننا هذه الأسطورة، كنت أردد ذلك فى داخلى وأنا أتأمل المجلدات الستة والعشرين الأنيقة الضخمة التى جمّعت فيها دار الشروق نتاج أربعين سنة من أعمال الأستاذ، أحد القامات الإبداعية المصرية الكبيرة، التى تؤكد أن مصر بلد كبير لايزال، برغم ما فعله ويفعله الصغار والمتصاغرون بها، وهى أسطورة تؤنس وحشتنا، وتنعشنا بحيوية ودأب وكبرياء النموذج، متعه الله بالصحة والتألق.

وكل سنة جديدة وهو، وأنتم، ونحن جميعا، ومعا، بألف خير.  

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .