تكاد تتشابه أسئلة المستقبل ومخاوفه، السلطة وطبيعتها، الجيش ودوره وما قد تستقر عليه الأوضاع القلقة فى الجزائر والسودان، كأن كل حراك مرآة للآخر.
تتماثل المخاوف بنصوصها تقريبا خشية إعادة إنتاج النظام القديم وإجهاض تطلعات التغيير وتتباين الحيثيات وفق تعقيدات الأوضاع الداخلية فى كل بلد وما تركه إرث التاريخ على الجلد السياسى من قروح مزمنة.
جوهر الأزمة الماثلة الآن عند منتصف الطريق بعد إطاحة رأسى السلطة فى البلدين يلخصه سؤال واحد: من يدير المرحلة الانتقالية؟
بصياغة أخرى: وفق أى آليات سوف ترتب الأوضاع الجديدة؟
هذه ليست مسألة يمكن تجاوزها بيسر قفزا فوق الحقائق بقدر ما هى تأسيس مبكر لنوع النظام الجديد وآلياته وقواعده ومدى ما يوفره من حريات عامة وحقوق مواطنة وعدالة اجتماعية ورضا عام ينقل البلد من عصر إلى آخر لا من رجل إلى آخر.
سقوط رأسى السلطة لا يعنى أن النظامين قد غادرا مسرح التاريخ إلى الأبد.
ذلك موضوع الصراع على مستقبل البلدين والاحتمالات كلها مفتوحة.
تبدت فى الحراكين الشعبيين عناصر قوة مستلهمة من العصر ووسائطه الحديثة وقدرتها على الحشد والتعبئة طلبا للتغيير بديلا عن الأحزاب المستهلكة التى فقدت صلاحيتها السياسية والثقة العامة فيها.
بقدر ما كان ذلك دليلا على حيوية المجتمعين فإنه يشير إلى مواطن ضعف لا يمكن إنكارها ترتبت على تجريف الحياة السياسية بالكامل على مدى عشرين سنة من حكم «عبدالعزيز بوتفليقة» فى الجزائر وثلاثين سنة من حكم «عمر البشير» فى السودان.
هشاشة الإطارات السياسية بالتضييق على الحريات العامة أفقر البلدين من أية قدرة على بناء وتجديد نخبه وقياداته الطبيعية.
جاء التغيير من خارج السياق، كأنه إعلان مدو بفشل النظامين بكل مكوناتهما، غير أن القوى الشابة والحديثة التى تصدرت الحراكين قد تنحى بسيناريو أو آخر عن المشهد كله.
إحدى معضلات الحراكين استنادهما إلى قوة الغضب بأكثر من الأطر السياسية ذات البرامج العملية.
الحراك السودانى نجح فى سد الفجوة الكبيرة بين الغضب والبرامج، بلور قيادة شبه موحدة لها برنامج معلن يطلق عليه «إعلان قوى الحرية والتغيير»، غير أنه لا يمكن فى أى مدى منظور استبعاد احتمالات التشقق فى بنيته بضغط الحوادث أو بمغانم السلطة.
هذه لعبة قديمة مكررة.
حتى الآن لم يتوصل الحراك الجزائرى إلى مثل هذه الدرجة من البلورة البرنامجية والتنظيمية والسيولة السياسية تغلب عليه رغم الحشود الشعبية التى تلتف حول مطالبه وقدرته على إلحاق ضربات متتالية فى بنية النظام السابق ووجوهه السياسية والمالية.
يلفت النظر فى الحراكين أن كليهما طلب تدخل الجيش لحسم الصراع على السلطة مع رأسى النظامين حيث انتقلت الشرعية من القصور إلى الشوارع.
عندما استحكمت الأزمة السودانية وبدأ نظام «البشير» يترنح جرت دعوات واسعة للاعتصام أمام مقر القوات المسلحة الذى يدخل فى نطاق جغرافى واحد مع القصر الجمهورى.
ترددت نداءات وعلت أصوات تطالب الجيش بالتدخل لعزل «البشير».
تكفلت مجموعة «البشير» الأمنية والعسكرية بالموجة الأولى للانقلاب قطعا للطريق، عزلت رأسها وحاولت أن تحافظ على النظام بكل مكوناته ومصالحه، غير أن قوة الغضب الشعبى كانت أكبر مما طلبت، ثم حدثت موجة ثانية صعد بمقتضاها الفريق «عبدالفتاح البرهان» إلى رئاسة المجلس العسكرى الانتقالى، أعقبها عزل قيادات عسكرية عديدة وملاحقة رءوس أمنية وسياسية ومالية تنتسب إلى عصر «البشير»، وقد أكسبه ذلك قدرا من الشعبية اصطدم بمخاوف استبدال مستبد بآخر ــ حسب تعبير «تجمع المهنيين» الذى أشعل الشرارة الأولى للحراك.
بعد وقت قصير بدأت تتضح ملامح الصراع على المستقبل السودانى.
نشبت مساجلات علنية تؤذن بصدامات محتملة بين قوى الحراك الشعبى والمجلس العسكرى الانتقالى حول المرحلة الانتقالية، التى تتطلب توافقا حول المجلس السيادى الانتقالى ونسب تمثيل العسكريين والمدنيين فيه.
بصياغة أخرى، لمن القرار الأخير فى تشكيل حكومة كفاءات مدنية، إقرارها وعزلها، وفى تشكيل مجلس تشريعى بكامل الصلاحيات؟
الجانبان يؤكدان على الشراكة الكاملة، لكن لكل منهما مفهوم مختلف يستمد منطقه من إرث التاريخ.
المعضلة أنه لا يمكن القفز بالعودة إلى الماضى على الحراك الشعبى، لكن يظل الالتفاف على مطالبه واردة، كما لا يمكن استبعاد الجيش من المعادلة فى ظروف بلد مثل السودان توجد به جماعات مسلحة ترقب احتمالات المستقبل وفرص الاندماج السياسى فى مجتمعها.
بإرث التاريخ خضع السودان منذ استقلاله عام (1956) لما يشبه «الباب الدوار» بين الحكم المدنى والانقلاب العسكرى، الأول لم يؤسس لديمقراطية حديثة حيث هيمنت عليها القوى التقليدية والطائفية واستبعدت تقريبا القوى الحديثة.. والثانى أفضى إلى أزمات وحروب وانهيارات فى مكانة السودان فضلا عما هو منسوب إلى تجاربه المختلفة من قمع مفرط.
الفشل المزمن يستدعى المراجعة عند جذور الأزمة لا على سطحها.
هناك الآن نذر مقلقة تلخصها الاتهامات والشكوك المتبادلة دون أن تتوفر حتى الآن قاعدة تفاهم صلبة تسمح بالمضى قدما فى مرحلة انتقالية مستقرة تصون الإرادة العامة فى التغيير من التعدى عليها، أو الانتقاص من مطالبها فى بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
هذا تحد يستدعى أكبر قدر ممكن من التبصر بالمخاطر والمنزلقات حتى لا يجرف أى صدام محتمل كل ما أمامه.
فى الحالة الجزائرية المخاوف نفسها ترددت، غير أن مقاربة الجيش اختلفت.
عندما استحكمت أزمة العهدة الخامسة لـ«عبدالعزيز بوتفليقة» بدا قائد الجيش «قايد صالح» مستعدا للوقوف للنهاية بجوار الرئيس المريض، غير أنه اضطر لدفعه للتنحى فى خطاب متلفز.
لم يكن ذلك قراره وحده بقدر ما كان قرار مؤسسة كاملة.
على عكس ما جرى فى السودان رفض الجيش الجزائرى الإقدام على أى تصرف خشن يأخذ صفة الانقلاب المباشر.
أصر قائده على الحل الدستورى رغم أن أغلبية الشارع تطالب بحل سياسى يمنع رموزا تنتسب إلى النظام السابق من الإشراف على الانتخابات الرئاسية المزمعة.
قاد معركة مفتوحة ضد الفساد وملفاته التى وصفها بالثقيلة وصلت إلى الرءوس الكبيرة أوسع مما حدث فى السودان حتى الآن دون أن تتملكه نزعة الحكم بانقلاب عسكرى مباشر.
أحد أوجه حيرته أن من يطالبونه بعزل الرئيس الانتقالى ونقل مهام المرحلة الانتقالية إلى هيئة مدنية لا صلة لها بآثام النظام السابق ووجوهه المتهمة بالفساد سوف يصفون فعله فى اليوم التالى بالانقلاب العسكرى.
كما أن الخبرة الجزائرية لها طبيعة مختلفة، فقد دأب الجيش منذ انقلاب «هوارى بومدين» عام (1965) على المجىء بالرؤساء وأن يحكم من خلف غلاله مدنية.
بسبب التجريف الطويل تبدو القوى الشابة والحديثة فى الحراكين غير جاهزة لخوض انتخابات عامة رئاسية وبرلمانية، وتنتابها شكوك عميقة فى أن القوى القديمة والتقليدية قد تعود من النافذة بعد أن طردت من الباب.
هذه بدورها واحدة من تعقيدات الانتقال الصعب والملغم فى حراكى الجزائر والسودان.