ثلاجة هانم - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:11 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ثلاجة هانم

نشر فى : الخميس 2 أغسطس 2018 - 9:10 م | آخر تحديث : الخميس 2 أغسطس 2018 - 9:10 م

في بيت كل منا شيء ما يعتز بوجوده أكثر من غيره، لكني أظن أن أحد المشتركات بين الكثير من البيوت المصرية ذلك الوضع الخاص الذي تتمتع به الثلاجة. هل صادفت يوما من يزّين جهاز التكييف مثلا أو المروحة بأحد الأشكال المغناطيسية اللطيفة لثمرة فاكهة أو معلما سياحيا رغم الدور العظيم الذي يؤديه الجهازان في ترطيب حرارة الجو؟ لا لم تصادف بالتأكيد، لكنك غالبا ما صادفت مثل هذه الأشكال المغناطيسية وهي تزين أبواب الثلاجات وتضفي عليها مظهرا جماليا لا بأس به. هل لاحظتَ أن بيوتا عديدة تستخدم مبردات المياه لتقسيم العمل وتخفيف الضغط على الثلاجة ؟ الأرجح أنك قد لاحظْتَ ذلك ولعلك لاحظتَ أيضا أن هذه البيوت نفسها لا تأخذها شفقة بأجهزة التلڤزيون التي يتركها أصحابها تعمل دون توقف بل إن منهم من يحلو له النوم على صوت التلڤزيون . نحن نولي أهمية لثلاجاتنا كجزء من اهتمامنا بالطعام الذي هو المظهر الأبرز لاحتفالاتنا الاجتماعية والدينية والتعبير الأمثل عن حبنا للآخرين .

***
نشأتُ في بيت كان التعامل فيه مع الثلاجة يحاط بطقوس خاصة ، مبدئيا كان محرما على معاونة المنزل أن تفتح الثلاجة حتى وإن قضت في خدمتنا سنين طويلة كفيلة بأن تجعل منها فردا من أفراد العائلة، فهذه نقرة وتلك أخرى ، وهكذا فإن أرادت المعاونة أن تحفظ طعاما في الثلاجة تَوَجهت إلى أمي لتتولى بنفسها الإشراف على عملية الترتيب ، ولم يتغير هذا التقليد قط إلا حين أقعد المرض أمي وكان هذا لسنوات قليلة قبل وفاتها رحمها الله. وبقدر ما كان السماح بتعامل الجميع مع الثلاجة يتضمن تطورا "ديمقراطيا " محمودا فإنه كان يترك في الحلق غُصة لأننا كنا نعلم أن ما ألجأ أمنا لتغيير سلوكها لم يكن سوى "الشديد القوي ".

***
أما قبل هذا التطور فكم كان مدهشا ذلك الحرص الذي يصل إلى حد الخشوع وأمنا تنظف ثلاجتها الأثيرة بشكل دوري ، تمسك في اليد اليمنى بقطعة من القماش المبلل تمسح بها أنحاء الثلاجة وفِي اليد اليسرى بقطعة أخرى من القماش الجاف تمر بها على كل شبر بللته برفق شديد، وبعد أن تتم مهمتها المقدسة تغلق باب الثلاجة وتأخذ خطوة إلى الخلف وتروح تتغزل في نظافتها. كيف كانت علاقتنا نحن الأبناء بهذه المعشوقة الكهربائية ؟ كان مسموحا لنا بالتعامل مع الثلاجة لكن بحرص، فإذا ما كررنا فتحها وغلقها أتانا صوت أمنا الحبيبة محذرا إيانا بمنتهي الجدية من أن الأكل سيفسد. هكذا بدت لنا الثلاجة وكأنها صندوق الدنيا، نفتح بابها في جنح الظلام فإذا بضوئها يستقبلنا مرحبا وكأنه يقول لنا أهلا على طريقته ، تُطل علينا عناقيد العنب الأصفر من إنتاج مزارع چناكليس وينعكس عليها الضوء الخافت فيحيل حبات العنب الشهي إلى وحدات من الذهب الخالص ، وقبل أن نُشبع فضولنا ونجول بأبصارنا على الأرفف الثلاثة نستطلع ما تحمله مما لذ وطاب إذا بصوت أمنا يصلنا كالمعتاد: يا اولاد الأكل حايبوظ ! وفي الحقيقة لم نكن متأكدين فعلا في أي لحظة من أن " الأكل حايبوظ " .
***

أما اليوم الذي كانت تتعطل فيه الثلاجة وهذا كان نادرا ما يحدث فإنه كان إعلانا لحالة الطوارئ ، الأعصاب مشدودة .. الكل متوتر .. الاتصالات لا تتوقف .. حتى إذا سرى التيار الكهربائي مجددا في أوصال الثلاجة عادت الأمور إلى طبيعتها . لم تغير أمي ثلاجتها قط على مدار نصف قرن أو يزيد رغم أننا انتقلنا من بيت لآخر وبدلنا الكثير من قطع الأثاث والأجهزة الكهربائية، وكان عمر الثلاجة المديد مصدر فخر كبير لأمي حين تتحدث عنها مع بعض أقاربنا. أما ما كان يستفزنا بشدة فكانت تلك المخابئ الخاصة في الزوايا والأركان التي تحتفظ فيها أمي بشيكولاتة كورونا لتكافئنا بها إن أعدنا ترتيب غرفتنا بعدما نكون قد عثنا فيها فسادا . كنا من حين لآخر نبحث عن الشيكولاتة في كل مكان في الثلاجة فلا نجد شيئا، ثم تأتي أمنا وبمنتهى الثقة والثبات تمد يدها داخل الثلاجة وتخرج منها الشيكولاتة تماما كما يفعل أي ساحر محترف. لفترة ليست قصيرة تمكن مني اعتقاد بأن هناك أبوابا سرية للثلاجة لا أحد قادرًا على أن يراها غير أمي ولا أحد يملك مفاتيحها سواها، وعندما شاهدت فيلما سينمائيا فيه خزنة للنقود داخل تجويف الجدار قلت لنفسي: وجدتها ..لابد أن وراء الثلاجة تجويفا مماثلا تحتفظ فيه أمنا بالحلوى والعصائر والياميش وكل الأشياء اللذيذة .
***

انهمرت هذه الذكريات على رأسي والحفيدة ذات الثلاث سنوات تفتح باب الثلاجة بكفاءة عالية، توسّع لنفسها مكانا معتبرا تقف فيه لتنكشف أمامها محتويات الثلاجة كاملة. أتأملها وهي تحرك الأوعية والزجاجات والعلب بحثا عن شيء ما يروق لها وإن لم تكن تعرفه على وجه التحديد، تلتقط علبة لبن بالشيكولاتة وتبدأ في ارتشافه بتلذذ ظاهر. يحطم هؤلاء الصغار تابوهات كثيرة تربينا عليها ويفعلون ما لم نجرؤ نحن يوما علي فعله ، نعم مازلنا بالتأكيد نحب ثلاجاتنا ونوليها اهتماما خاصا ونضع الأشكال المغناطيسية على أبوابها، ونعم مازلنا نتوتر إن تأثرت قدرتها على التبريد وحفظ الطعام ، ونعم مازلنا نستعير عبارة " يا اولاد الأكل حايبوظ" ونقولها على فترات متباعدة، لكن الزمان صار غير الزمان .. انتهي عصر الامتيازات الذي كان يجعل فتح الثلاجات وغلقها حكرا على أهل البيت دون المعاونات والمعاونين، وصرنا نواجه جيلا جديدا من العفاريت يستحيل عليك أن تخفي منهم شيئا في هذه الزاوية من زوايا الثلاجة أو تلك .

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات