الحكومة بين الضعف والقوة - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 2:04 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحكومة بين الضعف والقوة

نشر فى : الثلاثاء 4 أغسطس 2009 - 7:32 م | آخر تحديث : الثلاثاء 4 أغسطس 2009 - 7:32 م

 حينما حصلت مصر على استقلالها السياسى، اعتقدت أنه الشرط اللازم والكافى لامتلاك القدرة على تصريف شئونها، وتحقيق الرفاهية لشعبها. وكانت تلك الرفاهية تتطلب التطرق إلى دروب فى الإنتاج أغلقها أمامها الاستعمار حرصا على نهب خيراتها والاستئثار بسوقها.

وظنت أنها إذا قضت على الإقطاع والاحتكار المتعاونين معه فسوف تنساب الأموال فى شرايين الاقتصاد الوطنى. فإن لم يكف ما يملكه المواطنون فهناك رأس المال الأجنبى، الذى أتيح له أن يملك 51% ليطمئن إلى المشاركة فى اتخاذ القرار.

غير أنها اكتشفت ــ كما اكتشفت دول نامية أخرى ــ أن الروابط الاقتصادية التى فرضتها قوى الاستعمار من أجل استغلال ثرواتها لا تسمح لها بحرية اختيار النشاطات التى تضع اقتصادها على طريق التنمية المستقلة، وتمكنها من التعامل فى الأسواق العالمية وفق اعتماد متبادل قوامه التكافؤ لا التبعية. واكتشفت أن العيب مرتبط بتشوه السوق، ليس بمعنى أن أى سوق فاسدة بطبيعتها، بل لأن العوامل التى تكفل كفاءة عمل السوق غائبة.

فالقطاع الخاص الهزيل القائم كانت تتحكم فيه عناصر دخيلة زرعها الاستعمار، والرأسمالية المصرية انقسمت بين رأسمالية وطنية محدودة القدرات، ورأسمالية مستغلة تعمل لصالح القلة القادرة، دون اعتبار لحاجات عامة الشعب، سواء لتحسين معيشتهم أو لخلق فرص عمل بأجور معقولة. أما رأس المال الأجنبى فله مطامع أخرى، ليس بينها تنمية تضع الاقتصاد الوطنى على مستوى المنافسة العالمية.

فكان لا بد من تدخل الدولة، أولا: للتخلص من سيطرة رأس المال الأجنبى، وثانيا: لإيقاف الاحتكار الذى يمارسه رأس المال المحلى، وثالثا: للدخول فى مجالات جديدة توسع نطاق اقتصادها. وفى الوقت نفسه، كان عليها أن تصحح أوضاع المواطنين فى مجالات حيوية لا توفرها لهم دخولهم المتواضعة، رغم ضرورتها لسلامة حياتهم ولرفع إمكاناتهم مستقبلا، وتشمل مجموعة كبيرة من الخدمات على رأسها التعليم والرعاية الصحية.

وهى بهذا تتصدى للثالوث الذى كان يردد إبان الديمقراطية التى يحلم البعض باستنساخها، ونعنى به ثالوث «الفقر والجهل والمرض». وهكذا تحملت الدولة أعباء ثلاثة: العبء التقليدى المتعلق بالأمن والدفاع والقضاء وإدارة العلاقات الدولية؛ وعبء النهوض بالإنتاج وما يلزمه من تمويل وإدارة ومعرفة تقنية؛ وعبء النهوض بالبشر وضمان العدالة الاجتماعية. وكان لا بد لهذا من تخطيط علمى، وإعداد كوادر مناسبة فى كل المجالات.

غير أن الرأسمالية العالمية التى حولت الاستعمار من مباشر عماده العسكر، إلى غير مباشر عماده الرأسماليون، وجدت أن القطاع العام شريك غير مرغوب فيه، حتى ولو قبل الدخول فى لعبة التدويل منتقيا منها ما يراه صالحا، ليس فقط لامتلاكه كفاءات فنية رفيعة ومؤسسات متخصصة تزوده بالمعرفة، بل وأيضا لأن القدرات القانونية للدولة تمكنه من سد منابع الاستغلال.

وفضلت عليه أفرادا تستطيع الانفراد بكل منهم، وتزين له ما يبدو أنه يحقق مصلحته الخاصة، وإن كان فى الواقع مبعثه مصلحتها لتأكيد تدويل العملية الإنتاجية ومواصلة استغلال الموارد الطبيعية الموجودة لدى الدول النامية والتى كانت الدافع لاستعمارها. ومن ثم كالت تهم «الشمولية» وغياب الديمقراطية للدول المعتمدة على الملكية العامة، وسعت إلى تقويض أسسها.

وبدأ التغزل فيما يسمى الحكومة الرشيقة، التى تزيح عن كاهلها مهام تلقيها إلى السوق بدعوى أن الأفراد أقدر على خفة الحركة وفقا لمؤشرات سوق نسبت إليها أنها هى الوحيدة التى تكفل كفاءة تخصيص الموارد على النحو الذى يناسب متطلبات كل المواطنين، بينما الدافع الحقيقى هو تمكين القوى الرأسمالية العالمية من أن تصول وتجول حيثما تريد.

وحتى لا يبدو أن الأمر فيه إضعاف للدولة، تشدق الليبراليون بادعاء أن رشاقة الدولة لا تعنى ضعفها، بل تجعلها قوية تمسك بزمام الأمور وتمتلك قدرات لإدارة شئون الاقتصاد والمجتمع، عن طريق رسم السياسات التى توجد الحوافز وتضع الحدود السليمة لحركة الأطراف المتعاملين فى الأسواق، وتبرعوا لها بحزم سياسات ما عليها سوى تطبيقها. ولما اتضح فساد تلك السياسات وسوء عواقبها الاجتماعية، طالبت منظمات دولية بأن يكون للإصلاح وجه إنسانى، فكان الرد هو تبرئة برامج الإصلاح الاقتصادى من المشاكل وإرجاعها إلى أخطاء فى مناهج التنمية وتقصير من جانب الدولة فى الشئون الاجتماعية، وعلى رأسها معالجة الفقر والمرض. وبدلا من أن تقوم الأمم المتحدة بدورها الذى دفعتها إليه مجموعة عدم الانحياز فى منتصف السبعينيات لإقامة نظام دولى جديد وتصويب النظام النقدى الذى أصابه الاضطراب، أقرت برنامجا للألفية خاطب قائمة من الآفات الاجتماعية ودعا الحكومات إلى التعاون على تخفيضها إلى النصف بحلول 2015.

ومع اندلاع الأزمة الراجعة إلى فساد النظام الاقتصادى والمالى السائد، أضيفت مشاكل جديدة يغذيها الانكماش وتزايد الفقر وتفاقم البطالة، وانشغل الجميع عنها بالتسابق إلى ما يسترد عافية الاقتصادات التى لم تنقذها سياساتها الحكيمة.

وأول مغالطة فى تلك المقولات أنها صورت الأمر على أنه خلاف حول قوة الدولة، أو بالأحرى الحكومة، وأنها حينما تولت مسئوليات التنمية كانت تنشد القوة لنفسها. قوة بماذا؟ وعلى من؟ إنه التفكير المادى الذى ينطلق منه المنهج الليبرالى بأن القوة تكمن فى مجرد امتلاك رأس المال، فيجب أن يظل هذا حكرا على فئة تدعى أنها الأقدر على توظيفه، وتدخل فى تعاقد مع الدولة لتمارس قوتها فيما فيه مصلحة تلك الفئة.

ومعنى هذا أن المجابهة هى بين الفرد والدولة، وهو ما يستبعد المجتمع الذى هو الأساس والذى لا يصح أى عقد اجتماعى إلا بتراضى الأطراف الثلاثة: الفرد والمجتمع والدولة. ويميل التحليل الكلاسيكى إلى إيكال الجانب الاقتصادى لأفراد القطاع الخاص، والسياسى للدولة، والاجتماعى للمجتمع وبخاصة المجتمع المدنى.

وبحكم تغليب البعد الاقتصادى، فإن القوة الحقيقية تكون بيد الطرف المسيطر على العنصر الحاكم للنشاط الاقتصادى وهو رأس المال. فإذا كان هو الرأسماليون تولت الدولة تطويع باقى أطياف المجتمع لرغباتهم. فإذا اعتبر أن العمال هم الأحق بتلك السيطرة لكونه نتاج جهد بذلوه فإن الدولة الآخذة بالاشتراكية المادية تنوب عنهم فى ملكيته وإدارة النشاط الاقتصادى لصالحهم. وفى الحالتين يختزل المجتمع فى فئتين وتغيب باقى فئاته. وعندما كشفت الأزمة الحالية مآخذ انفراد الرأسمالية الحمقاء بالشأن الاقتصادى، وضعت الحكومة نفسها فى خدمة إبقائها على قيد الحياة، محافظة منها على العقد بينها وبين الفئة التى أوصلتها إلى السلطة.

إن مصدر القوة للدولة هو أن تستند إلى المجتمع بكل فئاته، لتدرك احتياجات الشعب وتلبى تطلعات المجتمع، ومن أجل هذا تتولى شئون التنمية بشقيها الاقتصادى والاجتماعى. أما الدولة الضعيفة فإنها تبحث عن القوة فى مواجهة الشعب، فتتسلط كدولة مستبدة عليه لتتستر على ضعفها أمام قوى الرأسمالية العالمية.

وهناك شق آخر للمغالطة يقوم على الربط بين التخلى عن الاقتصاد لقوى السوق وإشاعة ديمقراطية الصناديق وتداول السلطة السياسية لينشغل بها الجمهور، فإذا به يكتشف أن السلطة الحقيقية فى يد أقطاب القطاع الخاص، وهو ما شهدت به التجربة المصرية قبل الثورة وبتزاوج السلطة والثروة حاليا. ويكتمل النموذج الليبرالى بجمع النقيضين: دول المركز: ضعيفة أمام الرأسمالية المتعولمة فى داخلها، ومستبدة على دول الأطراف؛ ودول الأطراف: ضعيفة أمام الرأسمالية المتعولمة خارجها ومستبدة على الشعب داخلها، مستعينة برأسماليتها التابعة التى تلقب بالوطنية.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات