نشهد لحظة تصعيد متبادل ومتسارع بعد إسقاط إسرائيل لمرتين قواعد الاشتباك (توازن الردع بشكل خاص) التى كانت قائمة وناظمة للحروب المختلفة الأشكال خاصة على الجبهة اللبنانية الإسرائيلية (اغتيال مسئول لحزب الله فى الضاحية الجنوبية واغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسى لحركة حماس فى طهران). والبعض يضيف فى أعمال إسقاط قواعد الاشتباك اغتيال القيادى فى حماس ناصر العارورى فى الضاحية الجنوبية أيضًا فى مطلع هذا العام. ويحصل ذلك بعد أشهر عشرة من حرب الإبادة والاستئصال التى تقوم بها إسرائيل فى قطاع غزة ودخول متغير أساسى، فى تاريخ هذا الصراع، وهو مفهوم وحدة الساحات كعقيدة استراتيجية فى مواجهة إسرائيل التى وضعت أهدافًا غير قابلة للتحقيق فى حربها فى غزة وصارت أسيرة تلك الأهداف. الأمر الذى أضفى بعدًا إقليميًا موسعًا، ولو بدرجات مختلفة من الانخراط المباشر، للحرب القائمة وربما المقبلة أيًا كانت طبيعة هذه الأخيرة فى جغرافيتها وحجمها وحدتها. دخل عامل خماسية وحدة الساحات كمتغير أساسى فى تاريخ هذا الصراع أيًا كان بالطبع، كما أشرنا، دور وثقل وطبيعة مشاركة كل من هذه الساحات وأهمية تلك المشاركة على الصعيدين السياسى الاستراتيجى والعملياتى العسكرى فى الإقليم الشرق أوسطى. الإقليم الذى تزداد الأوضاع فيه بسبب هذا المتغير، سخونة ومخاطر وانفتاح على المجهول ضمن سيناريوهات مختلفة. إسقاط إسرائيل للخطوط الحمر التى كانت ناظمة لهذه التفاهمات ومقيدة للأعمال القتالية فتح الباب على المجهول.
بداية لا بد من الإشارة عن احتمال حصول حرب، كما يردد البعض، أمر غير دقيق. فالحرب قائمة، منذ أشهر عشرة، فى حدتها القتالية وازدياد ما يعرف، بمنطق الحروب، بالأهداف الاستراتيجية التى يتم التعامل معها عسكريا بما يعرف بـ«الضربات الجراحية»، كما أن الكثافة النارية ازدادت ومعها توسعت جغرافية حرب الأهداف. فالحرب قائمة حتى دون حصول اجتياح برى على الجبهة الشمالية أو الجنوب اللبنانى، كما كان تاريخ الحروب الإسرائيلية على لبنان وآخرها اجتياح صيف ٢٠٠٦. أدركت إسرائيل من تجاربها الماضية أنه ليس من السهل الغرق فى «المستنقع اللبنانى»، ولا يمكنها تحقيق النتائج المتوخاة من حرب برية، كما دلت على ذلك تلك التجارب، دون أن يعنى ذلك عدم احتمال السقوط مجددًا فى ذلك المستنقع، وهى الغارقة حاليًا فى مستنقع غزة.
إسقاط إسرائيل للخطوط الحمر أسقطها عند محور «تحالف الساحات»، كما ستدل على ذلك طبيعة الردود العسكرية المنتظر حصولها من هذا المحور من حيث تنويع طبيعة الأهداف وكثافة العمل العسكرى وتوسيع ساحة المواجهة فى الجغرافيا الإسرائيلية كرد على توسيع إسرائيل لأهدافها فى الجغرافيا الإقليمية. تزداد الحماوة على الأرض فيما تزداد المبادرات والوساطات من قبل الأطراف الدولية والإقليمية المعنية والمؤثرة لضبط هذه الردود وكذلك الردود الإسرائيلية المنتظرة مع تصاعد التهديدات المتبادلة، تحت سقف معين أو بمعنى آخر من خلال بلورة قواعد اشتباك جديدة.
قواعد تأخذ بعين الاعتبار وضع خطوط حمر جديدة تقوم على قاعدة التماثل، بعد أن أسقطت إسرائيل تلك التى كانت قائمة.
الجديد فى الأمر أن مسرح المواجهة توسع ليشمل أطرافا وجغرافية من الخليج مرورا بالبحر الأحمر وصولًا إلى المتوسط. ومن شبه المؤكد أن المواجهة فى «مسرح الصراع» التى كانت قائمة فى غزة والجنوب اللبنانى منذ أشهر عشرة ستشهد سخونة وتصعيدًا ولو بدرجة أقل عسكريًا، فى الضفة الغربية، وستكون لها ارتداداتها الكبيرة. الضفة الغربية هى قلب الصراع، بسبب الموقع الجغرافى والاستراتيجى والأيديولوجى، باعتبار أنها جزء من «إسرائيل الكبرى»، بالنسبة لإسرائيل التى تسرع فى استكمال عملية تهويدها فى بيئة من الصراع المتفجر والمفتوح على كل الاحتمالات.
نحن اليوم أمام لحظة مفصلية: فهل ستنجح «الأطراف الثالثة» فى بلورة تفاهم جديد غير مكتوب بالطبع قوامه استيعاب التصعيد الجديد والمنتظر تطوره والمتزايد فى حدته وجغرافيته تحت سقف جديد، يستند إلى توازن فى الردع، مع قواعد جديدة ومقيدة للحرب المستمرة والمفتوحة فى الزمان والمكان أم تنزلق المنطقة نحو حرب واسعة دون أى سقوف فى جغرافيتها وحدتها وأهدافها؟ الأيام المقبلة ستحمل الجواب حول أى سيناريو سيتحول إلى واقع فى الإقليم.
وزير خارجية لبنان الأسبق