النفسية تغلى - أحمد حسين - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 9:46 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

النفسية تغلى

نشر فى : الإثنين 8 أبريل 2019 - 10:30 م | آخر تحديث : الإثنين 8 أبريل 2019 - 10:30 م

(فاقد الشىء لا يعطيه) مقولة لم يُستدل على قائلها واخُتلف حولها، فالبعض يرى أنه يُمكن لفاقد الشىء أن يعطيه، أعتقد أن التعريف الدال لمعنى الفقد هو الفيصل فى إثبات صحة اختلاف هذا البعض من عدمه. فإذا عرفنا الفقد أو الافتقاد بمعنى الحرمان من الشىء بعدم وجوده من الأساس فى الشخص فيستحيل معه أن يشعر به أو يعطيه لغيره، ولكن إذا عرفنا الفقد بخسارة الشىء بعد امتلاكه فالإنسان وقتها يستشعر آلام فقد الشىء ويستنفر كل قواه لاسترجاعه أو استعادته وربما أيضا يستطيع أن يمنحه لوقت محدود للآخرين قبل أن يتأكد من خسارته للأبد. هناك من يحاول استعادة ما افتقدوه من أمان، وعلى الجانب الآخر من سلبه إياه يطالبه أن يستمر فى منحه للآخرين!!
من تقرير منظمة الصحة العالمية فى فبراير 2018 تحت عنوان (التمريض والقبالة) يسرد تحت بند حقائق (الممرضون والممرضات هم فى أغلب الأوقات أول من يراهم الناس من العاملين الصحيين، بل وأحيانا يكونون هم الوحيدون الذين يراهم الناس، ولذلك فإن جودة ما يقدمون من تقرير مبدئى ورعاية ومعالجة للحالات هو أمر بالغ الأهمية)، ومن هذه الفئة المهمة نبدأ استعراض بعض مشاكل العاملين فى مستشفيات الصحة النفسية. تلخص إحداهن بعض مآسى التمريض داخل قطاع الصحة النفسية فتقول (أنا ممرضة نفسية متعينة من حوالى 10 سنوات وحاليا بتقاضى الراتب بالكادر والحاجات الكتير 2100 جنيه، وبتقاضى عن نوباتجية بعد الظهر 12 جنيه والسهر 22 جنيه، يعنى إجمالى إلى بتحصل عليه 2372 جنيه فى الشهر، إحنا بنشتغل حاجات فى المستشفيات لم نتعلمها فى الدراسة، بنمسح ونكنس ونحمى المرضى ونصرف طلبيات السباكة والمنظفات، بنمنح اكراميات لفنيى الصيانة علشان يصلحوا الأعطال، وأوقات كثيرة بنجمع من بعض لنشترى احتياجات للمرضى لا توجد بالمستشفى، لو كان مريضنا واعى يمكن لم نكن لنفعل ذلك ولكن نحن نراعى ربنا وضمائرنا، كنا قبل 2014 بنتقاضى مميزات مالية زيادة عن زملائنا فى التخصصات الأخرى لطبيعة عملنا وكنا بنصرفها من الميزانية العامة، ولما صدر قانون 14 وقف المميزات دى وأنقصنا 170% من الراتب بمتوسط 350 جنيه تقريبا، على مدار أكثر من 4 سنوات بنشتكى للمسئولين دون جدوى، الكثير منا عليه قروض والتزامات وهذا النقص عمل لهم مشاكل، صرفوا لنا هذا النقص أوقات من صندوق تحسين الخدمة وبعدين توقفوا لأنه لا يوجد أموال بالصناديق، كل طلبنا إنه يرجعوا ما اقتطعوه يُصرف من الميزانية).
***
هذا عن التمريض بمستشفيات الصحة النفسية، انضم إليهم أيضا الصيادلة ضمن أصحاب المظالم بعدما امتنع مراقبو وزارة المالية عن الموافقة على صرف نسبة 200% المقررة لهم فى قانون 14 لسنة 2014، والتى كانوا أيضا يصرفونها لسنوات ثم قرر المسئولون فجأة حرمانهم منها.. ربما لتدبير نفقات إنارة طرقات دواوين الوزارات!!
هناك أيضا فى إدارة الأمانة العامة للصحة النفسية موظفون إداريون يتهيئون لإقامة دعوى قضائية لاستعادة مكتسبات مالية اقتطعتها منهم وزارة الصحة أو المالية، ليس مهما فالأهم أنهم فقدوا بعض الأمان.
الأطباء ليسوا بمنأى عن براكين الغضب عند الفئات الأخرى، الشباب منهم يُصبّرون أنفسهم متطلعين إلى صعود الطائرة إلى بلد خارج مصر، وكبار السن من الأطباء يحصى الأيام المتبقية على خروجهم للمعاش ممنيّن أنفسهم بقدرتهم على بداية حياة جديدة فى مشروع غير الطب، الأطباء على الأقل أفضل حالا فقد أضيف إلى ما كانوا يتقاضونه فى عام 2011 نسبة 70% من راتبهم الأساسى بمعدل 250 جنيها كاملة تجعلهم يغضون النظر عن سبعين ألف جنيه فارق ما سيتقاضونه بالمملكة العربية السعودية.
***
ثورات متعاقبة ومتفاوتة الشدة من العاملين بقطاع الصحة النفسية تتفاقم مع تجاهل المسئولين للمشكلة، حاليا وصلت إلى تنظيم وقفات احتجاجية داخل مستشفيات الصحة النفسية اتصلت بين معظمها فى محافظات الجمهورية المختلفة وإلى الآن لم يُقدر المسئولون فى وزارتى الصحة والمالية مدى تأثير السخط المتزايد عند العاملين على تقديم الخدمة للمريض النفسى.. أو ربما لا يعنيهم!!.
المشكلة بدأت عند وضع قانون 14 لسنة 2014 على أسس مادية أكثر منها فنية، أنصفت بعض قطاعات ولكنها ظلمت قطاعات أخرى من العاملين فى الصحة خاصة التخصصات التى بها ندرة والمحافظات البعيدة عن دائرة الضوء، فانتقصت مميزات مالية كان يحصل عليها العاملون فى مستشفيات الصحة النفسية وأطباء الرعاية الأساسية فى محافظات قنا والأقصر وسوهاج وأسيوط على سبيل المثال لا الحصر، والنتيجة مزيدا من العجز فى القوى البشرية المقدمة للخدمة فى تلك الأماكن ومريضا أكثر بؤسا.
العجز الشديد فى مقدمى الخدمة الصحية والتحديات التى تشكلها الهجرة الدولية للموظفين الصحيين لا سيما على الدول النامية، كان محور اجتماع جمعية الصحة العالمية فى مايو 2011 وكان من توصياتها (أن تحدد حسب الاقتضاء فى سياق الظروف الاقتصادية العالمية أولويات انفاق القطاع العام على الصحة، لتضمن توافر الموارد المالية اللازمة لتنفيذ سياسات واستراتيجيات تنمية القوى العاملة الصحية واستبقائها، ولا سيما فى البلدان النامية، باعتبار ذلك استثمارا فى صحة السكان يسهم فى التنمية الاجتماعية والاقتصادية)، كان ذلك فى 2011 ويسرد تقرير منظمة الصحة العالمية فى 2018 استمرار العجز فى أعداد العاملين الصحيين والتى يُشكل التمريض أكثر من 50% من نسبة هذا العجز.
فبحسب بيانات الصحة النفسية عن أعداد العاملين ومقارنة أعداد الأسرة بها، يوجد عجز بأعداد التمريض والأطباء النفسيين بنسبة 50% تقريبا عن المفترض وجوده طبقا للمعايير المسموح بها، يُفترض أن يكون ممرض لعدد 5 أسرة والواقع أنه يقوم على رعاية 25 مريضا عدد اثنين فقط من الممرضين فى النوباتجية، مستشفى أسوان للصحة النفسية التى تحتوى على 60 سريرا طبقا للمعايير المفترض وجود 21 طبيبا نفسيا على الأقل بينما تضم 4 أطباء قابلين للنقصان.
***
فى غالب الدول تعى الحكومات أن من مقاييس تحضرها قدرتها على حماية الفئات الضعيفة من شعوبها وعلى رأسها المرضى، لذا أقرت العديد من المميزات للعاملين بالقطاع الصحى بل وأسهبت فاختصت بمميزات أكثر التخصصات الطبية التى بها ندرة مثل الصحة النفسية والطوارئ والعنايات المركزة وللعاملين فى الأماكن البعيدة عن العمران، كل ذلك حتى يستطيع هؤلاء العاملون أن يعطوا المزيد من الرعاية الخاصة لمرضاهم، أن توفر الدول القدر الأكبر من الحماية والرعاية للإنسان فى أضعف حالاته وهى المرض فترتقى بذلك درجات فى سلم التحضر.
المساواة المُطلقة ليست عدلا، فلا نادت به الشرائع السماوية ولا نصت عليه الدساتير والقوانين الوضعية، فكما أن الواجبات تختلف وتتزايد من مهنة لأخرى فليس من العدل أن يُساوى بينها فى الحقوق.. هل ستنظر الحكومة المصرية للقطاع الصحى كونه من الأدوات المهمة فى الاستثمار فى صحة الشعب يعود بالمكاسب الاجتماعية والاقتصادية وبالتالى وجوب إعادة تقييم مستحقات وأجور العاملين بها وتمييز التخصصات التى بها ندرة، هل ستسمع صرخات العاملين فى مستشفيات الصحة النفسية قبل أن تنضب قدرتهم على عطاء ما افتقدوه أو سُلب منهم؟

التعليقات