هل سمعتم عن فراغ القوة من قبل؟ كان هناك حديث عال عن فراغ القوة فى الشرق الأوسط فى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى، وردد هذا الحديث قادة الولايات المتحدة وفى مقدمتهم رئيسها دوايت آيزنهاور. ببساطة رأى الرئيس الأمريكى ومستشاروه أنه بانسحاب الاستعمار البريطانى والفرنسى من الدول العربية يسود الإقليم فراغ قوة، بحاجة لمن يملأه، وإذا ما ترددت الولايات المتحدة فى إثبات وجودها فى الإقليم، فسوف ينفتح الباب أمام القوة المنافسة لها، وهى المعسكر الاشتراكى بقيادة الاتحاد السوفيتى. ولما كانت الولايات المتحدة تتصور أنها تمثل الخير فى العالم، فلم يكن لديها شك فى أن كل حكومات وشعوب الشرق الأوسط ستسرع بالانضمام إليها.
كان هناك من لم تعجبهم هذه المقولات، وكان أبرزهم فى الشرق الأوسط جمال عبد الناصر رئيس مصر فى ذلك الوقت، الذى صرح بأن الاتحاد السوفيتى بعيد عن العالم العربى، ولكن هناك خطرا حاليا وقريبا أمام الدول العربية، وهو إسرائيل، ولذلك فالأمر المنطقى والواقعى هو أن تستعد الدول العربية لمواجهة هذا الخطر العاجل والقريب وقد تمثل هذا الخطر فى احتلال مسلح لقسم واسع من أرض فلسطين، وعلى حساب عدد كبير من سكانها الشرعيين الذين تحولت مئات الآلاف منهم إلى لاجئين بعد أن طردتهم المنظمات المسلحة اليهودية من مدنهم وقراهم، وقد واصلت إسرائيل بعد قيامها باعتداءاتها على الدول العربية بل واحتلالها لأراض عربية فى مصر وسوريا والأردن ولبنان، واعتدت على العراق وتونس.
التفت الشعوب العربية وراء دعوة جمال عبد الناصر لمقاومة الأفكار الأمريكية التى عرفت فى ذلك الوقت باسم مشروع آيزنهاور، والذى لقى هزيمة منكرة، فلم تنضم إليه أى دولة عربية، ولولا هذه الحملة التى شنتها مصر ضد هذا المشروع، لكان قد لقى استجابة من بعض الحكومات العربية الأخرى، وخصوصا فى المملكة العربية السعودية والأردن ولبنان.
لكن لماذا أذكركم بما جرى منذ قرابة سبعين عاما فى الشرق العربى؟ بكل تأكيد ليس للترحم على هذا الماضى عندما كانت الشعوب العربية على وعى بمخططات الاستعمار الأمريكى. بل لأذكركم بأن فراغ القوة فى الشرق العربى قائم الآن وهو حقيقة واقعة، وأن القوة الوحيدة التى تسعى الآن لكتابة تاريخ جديد له وتغيير جغرافيته هى إسرائيل، وتمضى حكومتها فى مخططاتها لتثبيت احتلالها لغزة والضفة الغربية، وتهدد من جديد باحتلال جنوب لبنان، وتعربد قواتها وعملاؤها بلا رد فعال فى سوريا ولبنان وحتى إيران، وليس هناك من قوة عربية تقف أمامها. بل إن واقع فراغ القوة لا يرتبط فى التحليل الصحيح بشخص نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، بل هو مستمر بعده، ما لم تظهر فى الشرق الأوسط قوة جماعية تضع حدا لاستباحة إسرائيل كل ساحة الشرق العربى وبعض جيرانه، وتوقفها عند حدها احتراما ليس فقط لاستقلال شعوبه بل وكرامتها واعتزازها بنفسها.
عناصر القوة الإسرائيلية وفراغ القوة فى المشرق العربى
لست بحاجة لتذكير القراء بعناصر القوة التى تملكها إسرائيل وتفتقدها الدول العربية، ولكن أدعوكم وأدعوكن للمقارنة بين إرادة مقاومة المشروع الصهيونى فى سنة ١٩٤٨ عند إعلان قيام دولة إسرائيل وبين غياب التضامن الفعال مع الشعب الفلسطينى فى الوقت الحاضر. فى مايو ١٩٤٨ كانت جل الشعوب العربية واقعة تحت السيطرة الاستعمارية أو كانت قلة منها حديثة الاستقلال ومع وجود قوات احتلال غربية على أراضيها، ولم تكن جيوشها تملك عتادا حديثا كطائرات وغواصات وسفن حربية وأدوات الحرب الإلكترونية كما هو الحال الآن، وكانت معظم شعوبها فقيرة بل وربما من أفقر شعوب العالم، ولكن بعضها فى الوقت الحاضر يتمتع بمستويات معيشة ومتوسطات دخول تفوق ما تعرفه أكثر الدول تقدما، ولكن مع كل هذا الذى جرى من تقدم لا ينكر فى كل الدول العربية، حتى تلك التى تشهد حروبا أهلية أو صراعا مسلحا على أراضيها وبين أبنائها، فلا توجد إرادة موحدة وفعالة للوقوف مع الشعب الفلسطينى سوى بإصدار البيانات، ومطالبة ما يسمى بالمجتمع الدولى لإنقاذ الشعب الفلسطينى مما عجز أشقاؤه عن مواجهته، أو لم تكن لديهم رغبة حقيقية فى الأخذ بيده.
طبعا إسرائيل تملك عناصر قوة صارخة ولا يستهان بها، اقتصادها هو الوحيد فى كل الشرق الأوسط الذى انتقل إلى مرحلة ما بعد الصناعة، وقواتها المسلحة هى الوحيدة التى تملك سلاحا نوويا مدعوما بقدرات صاروخية متنوعة وبشبكة أقمار صناعية تجوب الفضاء وتكشف لقياداتها العسكرية كل ما يجرى فى أقاليم كل جيرانها، وتقدمها العلمى وخصوصا فى الصناعات الإلكترونية يجعل القوى الصاعدة فى العالم، ومنها تحديدا الصين والهند تسعى لكسب ودها، وجهاز استخباراتها، حتى مع خيبته فى التنبؤ بما جرى فى السابع من أكتوبر أو تحديد مواقع تواجد الأسرى الإسرائيليين فى غزة، هو يعرف بتحركات القادة السياسيين والعسكريين المناوئين له ويصل إليهم فى غرف نومهم أو اجتماعاتهم على نحو ما كشفت عنه اغتيالات قادة إيرانيين وفلسطينيين ولبنانيين فى الأسابيع القليلة الماضية، وهى تملك تأييدا لا يتوقف من القوة التى تتربع على قمة النظام العالمى وهى الولايات المتحدة الأمريكية.
عناصر القوة الإسرائيلية لا ترتبط بشخص بنيامين نتنياهو ولا بالوزراء المتطرفين فى حكومته، ولكنها عناصر قوة دولة إسرائيل، ولن يجد خلفاء نتنياهو ما يدعوهم لعدم الاستفادة من تفوق قوتهم على كل الدول المحيطة بهم. أولويتهم الأولى هى تثبيت سيطرة إسرائيل على ما يسمونه بأرض الميعاد، وحتى لو افترضنا أن القوى السياسية العلمانية التى لا تلتزم بهذه الرؤية التوراتية تشكل معسكر سلام فى إسرائيل، فقد انكمش أنصار مثل هذه الرؤية وتحولوا إلى أحزاب هامشية لا تكاد تصل إلى ما يتجاوز أصابع اليدين فى الكنيست الإسرائيلى، بعد أن اجتذبت أفكار اليمين غالبية قطاعات المجتمع الإسرائيلى والتى تجمع على ضرورة استمرار السيطرة على الضفة الغربية وغزة والقضاء على التهديد الذى يمثله حزب الله فى شمال إسرائيل ووقف تقدم البرنامج النووى الإيرانى.
إسرائيل فى المستقبل المنظور هى آلة حرب يقودها متطرفون، ليس بحسب أفكارهم، ولكن فراغ القوة المحيط بهم لا يضع حدا لطموحاتهم، وهم يدركون جيدا أن الظرف التاريخى مناسب لتحقيق كل ما حلم به قادة الصهيونية الأوائل، ولا يعرف أحد إلى أين تمضى قيادات إسرائيل فى تجاهل اتفاقات السلام الموقعة مع مصر والأردن، ولا يبدو أن نتنياهو يقيم وزنا لكون ممر صلاح الدين أو معبر رفح يجب ألا يكونا تحت سيطرة إسرائيل بموجب اتفاقيات عقدتها مع أطراف فلسطينية وأوروبية ومصرية. أمام فراغ القوة فى المشرق العربى لن يتردد قادة إسرائيل فى المستقبل فى التطلع إما إلى التوسع الإقليمى على حساب جيرانهم أو ضمان انصياع هؤلاء الجيران لسيطرتهم.
الرد على فراغ القوة
فراغ القوة القائم فى المشرق العربى هو كابوس ثقيل، ومع ذلك علينا أن نفكر فى كل تبعاته، وكيف علينا نحن فى مصر خصوصا أن نقف فى وجهه. هذا الواقع الجديد يستلزم أيضا فكرا جديدا يتمرد على وهم إمكان قيام علاقات سلام مع إسرائيل. هذا وهم استسلم له الرئيس أنور السادات وسار من ورائه كثيرون فى مصر وفى دول عربية مؤثرة. قد يرى البعض فى هذه الدول حكمة فى دفع عجلة التطبيع مع إسرائيل طالما أنها بهذه القوة وطالما إنها تحظى بتأييد القوة العظمى الأمريكية، ولكن خطر إسرائيل على مصر قائم، وسلوك حكومتها فى الأسابيع الأخيرة يؤكد أنها لا تكترث بمعاهدة سلام مع مصر، ومن ثم ليس أمامنا فى مصر إلا أن نعود إلى محاربة إسرائيل بنفس سلاحها وأسباب تفوقها.
نجاح المشروع الصهيونى قائم على ثلاثة أعمدة: العلم والديمقراطية والتحالف الدولى المفيد والفعال. علينا أيضا فى مصر أن نرد بالمثل. ببدء مشروع إقامة دولة يقودها العلم وتملك اقتصادا متنوع الموارد يمكن أن ينتقل لمرحلة التقدم التى تعرفها دول ما بعد الصناعة، وأن نقيم نظاما سياسيا ديمقراطيا تخضع فيه كل سلطات الدولة للمؤسسات المنتخبة ديمقراطيا، وأن نقاوم هذا المشروع الصهيونى بكل صور النضال المشروعة ونتضامن بفعالية مع كل من يقاومونه، وأن نقيم تحالفا يتجاوز المشرق العربى إلى الشرق الأوسط مع دوله التى تناصب إسرائيل العداء، وهى دول الحضارات الكبرى فيه وهى تركيا وإيران، وربما نكتسب إلى جانب مثل هذا التحالف الدول العربية الأخرى التى سوف تكتشف خرافة إمكانية قيام سلام مع إسرائيل، ويتضافر ذلك مع دعوتنا لكل من إيران وتركيا أن تشارك مع مصر فى إقامة نظام إقليمى يقوم على احترام السيادة واستقلال كل أطرافه. وأن نوثق العلاقات مع القوى الصاعدة فى النظام الدولى فى الجنوب التى تعترض على عدوانية إسرائيل، وأن نتجاوب مع قوى السلام فى الرأى العام العالمى.
المقاومة بالعلم والديمقراطية والتحالف الإقليمى والدولى الفعال هى الرد على فراغ القوة القائم الآن فى الشرق العربى.