«الرجل النمرة».. تراجيديا الحب والغضب والموت - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 10 مايو 2024 3:36 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الرجل النمرة».. تراجيديا الحب والغضب والموت

نشر فى : السبت 8 أكتوبر 2022 - 6:25 م | آخر تحديث : السبت 8 أكتوبر 2022 - 6:25 م

لعل هذه الرواية البديعة التى ترجمها الشاعر والروائى أحمد شافعى، والتى صدرت عن دار الكتب خان، من أجمل مفاجآت 2022، وهى النص الثانى المترجم لنفس الكاتب الإندونيسى الفذ إيكا كورنياوان، بعد أن ترجم شافعى من قبل روايته الضخمة العجيبة «الجمال الجرح».
الرواية الجديدة بعنوان «الرجل النمرة»، وتؤكد من جديد أننا أمام روائى باذخ الموهبة، يعرف موضوعه وعالمه الخاص، ويشكله بقدرة فائقة على السرد، مازجا عناصر واقعية حية، بأخرى سحرية وغرائبية، هى ابنة بيئة ثرية وحافلة بالأساطير والحكايات الشعبية، دون أن يغفل عن رسم نماذجه الإنسانية، نفسيا واجتماعيا، ودون أن ينفصل لديه الخاص عن العام، الفرد كعالم مستقل يستأهل الدراسة والاستقصاء، ولكن البيئة الاجتماعية أيضا ضاغطة ومؤثرة.
ولد إيكا كورنياوان بجزيرة جاوا فى العام 1975، درس الفلسفة، وصدر له أربع روايات، وخمس مجموعات قصصية، وكتاب يضم بعض المقالات، وحصلت روايته «الجمال جرح» على جائزة وورلد ريدر للعام 2016، وتُرجمت أعماله إلى 37 لغة، وروايتاه تُرجمتا إلى العربية عن ترجمتهما الإنجليزية.
فى «الرجل النمرة» تلك البساطة العميقة، التى تأخذ جريمة فى قرية هادئة ومهمشة، لكى تتأملها بالعمق، وبينما تبدو التفاصيل غارقة فى المحلية، وتنقل لنا أجواء وطقوس عالم خاص، فإن المشاعر الإنسانية، والروح المتعاطفة التى تقدم بها الأحلام الصغيرة، والفن اليومى لترويض الحياة، والأقدار التى تطارد الشخصيات، كل ذلك منح الحكاية طابعها الإنسانى المؤثر، بالإضافة إلى براعة كاتبها فى توظيف الأسطورة فى سرد نص تكاد ترى لوحاته وشخصياته، من فرط التفاصيل الواقعية التى يمتلئ بها.
لكن عنصرا إضافيا يمنح النص ثراءه، وهو تعدد مستويات وزوايا القراءة، فجريمة قتل الشاب «مارجيو» لجاره المتصابى ووالد حبيبته أنور السادات (اسمه فعلا هكذا فى الرواية)، هو ذروة أحوال مضطربة وعلاقات معقدة، وهو محصلة أقدار، بنفس الدرجة التى يمكن اعتباره ثمرة اختيارات وقرارات.
يمكن أن نفكك النص كله باعتباره قصة أسرتين، من عالمين مختلفين لا يلتقيان، اجتماعيا وطبقيا، ويمكن أن نقرأه باعتباره أيضا حكاية شخصيتين، ومزاجهما المتنافر، وطبعهما المتفرد.
النص أيضا حكاية قرية، وعلاقاتها الدائرية، ونظام علاقاتها السرى والعلنى، وغضبها وصراعاتها المكتومة، والعنصر الأسطورى المحورى فى الحكاية، وهو تلبس نمرة بيضاء شرسة، لجسد مارجيو، ليس فقط استدعاء لمأثور حكايات الأجداد، التى تفترض قيام النمور بحماية أسر وقرى بأكملها، ولكن هذه النمرة البيضاء الشرسة يمكن اعتبارها مجازا كبيرا للغضب الكامن، الذى يخرج لينتقم، حتى دون إرادة صاحبه، إنها النتيجة النهائية للتناقضات، والموت الذى ينهى حياة بلا طعم أو هدف.
فى مستوى آخر، يمكن قراءة الحكاية باعتبارها ترجمة لعلاقات غير متوازنة بين الرجال والنساء، مارجيو وعالمه ومصيره كله هو نتاج علاقته بالأنثى، سواء كانت أمه «نورينى»، المضطهدة دوما من والده، أو أخته البائسة الصبورة «مامه»، أو الفتاة «مهرانى»، ابنة أنور السادات التى تحبه، أو هذه النمرة الأنثى البيضاء، التى ورثها عن جده.
فى المقابل، فإن مصير نورينى الأم يحدده علاقتها برجلين غيرا حياتها: زوجها قومار الحلاق الفقير الشرس، والد مارجيو، وجارها الرسام والنحات عاشق النساء أنور السادات، وهى محاصرة فى عالم ضيق محدود، وجسدها هو جسر هذه العلاقة التراجيدية، سواء مع زوجها أو مع جارها، الجسد هو مرآة اللذة، والقهر، والانتهاك، وهو الباب الوحيد لوجودها، وما كان يمكن أن تجد بابا آخر، إلا بأن تتحدث للموقد، أو لطاسة الطعام، فى مطبخها الفقير.
مثل سارد يعرف كيف يبدأ حكايته، يفتتح إيكا كورنياوان النص بالجريمة، ثم ينطلق لتفكيك علاقات الشخصيات، وأصل وفصل الأسرتين، ويعود فى النهاية إلى سبب قتل مارجيو لأنور السادات، وهو بناء يذكرنا على نحو ما ببناء رواية جابرييل جارثيا ماركيز العظيمة والمحكمة «وقائع موت معلن»، وهى أيضا حكاية قرية وعلاقات وأسرار مسكوت عنها، بقدر ما هى حكاية نفوس وأهواء وأمزجة، ولكن وجود النمرة البيضاء فى جسد مارجيو، منح الحكاية الإندونيسية طابعا قدريا تراجيديا، وبدا كما لو أن عينا لا نراها تشهد على هذه العلاقات المختلة، وتتدخل لتحقيق العدل والانتقام، حتى لو كان مارجيو يمتلك حيرة وترددا وصدمات، تليق حقا بـ «هاملت آسيوى».
ووسط نماذج رجالية قاسية (قومار الحلاق والد مارجيو)، أو انتهازية وغير مسئولة (أنور السادات)، تلمع النماذج النسائية بوصفها مستودعات للجمال والحب (مهراني)، أو عنوانا على الصبر والبؤس ومواجهة الاضطهاد (نورينى أم مارجيو)، أو رمزا للغفلة وعدم المعرفة (زوجة أنور السادات)، أو ملاكا عابرا لا يستحقه العالم القاسى (ماريان الوليدة شقيقة مارجيو ومامه التى سرعان ما تموت)، أو عنوانا على التهميش والحزن (مامه أخت مارجيو).
وبينما تتفاعل عناصر الحب والموت والغضب فى وحدة لا تنفصم، فإن حسا ساخرا، ومقابلات بين المواقف المتناقضة، وتعليقات ذكية على هذه المواقف، تخفِف كثيرا من وقع التراجيديا، وتمنح الحكاية بعض العبث، وكثيرا من الروح العذبة الرائقة.
وفى الوقت الذى تبدو فيه الطبيعة حاضرة صوتا ولونا، منسجمة ومعطاءة، فإن الطبيعة البشرية، تبدو معقدة، ومتنافرة، وفى الوقت الذى تدخل فيه أسطورة النمرة البيضاء إلى الواقع الخشن، فإن القدر واختيارات الشخصيات، تصنع أسطورتها الخاصة المعاصرة، بأن تجعل من الفتى الهادئ، العائش فى البار وفى المسجد معا، قاتلا عنيفا ودمويا، يقتل أنور السادات، فيعوض بذلك عدم قتل والده قومار، والرجلان كانا سبب عذابه، وعذاب أمه نورين.
فى أحد أفضل مشاهد الرواية، ولا يخلو فصل من فصولها الخمسة من مشهد عظيم، يرفض القبر أن يستوعب جسد قومار عند دفنه، كلما وسعوا القبر، ضاق من جديد.
وهذه حكاية رفضت أن تدفن، كتبها روائى من الطبقة الأولى الممتازة، لن يدهشنى أن يفوز مستقبلا، بأرفع جوائز الأدب والرواية.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات