مُقارَبة الحَجْر اللّغوى بالحَجْر الصحّى - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 3:29 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مُقارَبة الحَجْر اللّغوى بالحَجْر الصحّى

نشر فى : الأربعاء 8 ديسمبر 2021 - 8:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 8 ديسمبر 2021 - 8:50 م
نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب محمود الذوّادى، دعا فيه إلى ضرورة تطبيق الحجر اللغوى أى استخدام اللغة الأم / الوطنية فقط فى مراحل التعليم الابتدائية والإعدادية والثانوية، مشيرا إلى عوامل ضعف الاهتمام باللغة العربية فى تونس وتفضيل الفرنسية بدل العربية. اختتم مقاله بتأثير الحداثة والاستعمار على العلاقة السليمة مع اللغة العربية فى تونس.. نعرض منه ما يلى.
تتشابه الظواهر كثيرا على الكوكب الأرضى، ما يبعث أحيانا على التعجُّب الكبير المُذهل الذى لا يكاد يصدّقه معظمُ الناس. لكنّ هذا التشابُه يُثير تساؤلاتٍ مَعرفيّة / إبستيمولوجيّة عميقة ومشروعة فى الصميم. فلماذا يَقع التشابُهُ بين ظواهر مُختلفة ظاهريّا للغاية؟ بالطبع يوحى مثل هذا التشابُه باستنتاجٍ بسيطٍ يومئ إلى وجود مصدرٍ أصلى واحد للظواهر؛ فبعض الأديان السماويّة تتحدّث بصوتٍ عالٍ عن وحدة الكَون.
القرآن الكريم، مثلا، يُردِّد فى سورِه المتعدّدة أنّ الله هو خالق السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى. أى أنّ أصل جميع ظواهر الكَون واحد: الله. «الله الذى خَلق السموات والأرض وما بينهما فى ستّة أيّام» (السجدة 4).. كما أنّ الدعوات المُتصاعِدة المُنادية بتوحيد العلوم بكلّ أصنافها، على الرّغم من الظواهر المُختلفة التى تدرسها تلك العلوم، هى دعوات تنطوى على اعتقادٍ قوى بوحدة أصل تلك الظواهر، ومن ثمّ ضرورة تشابُهها فى نهاية المطاف؛ اعتمادا على مقولة فكرة التشابُه بين الظواهر، نودّ طرْح فكرة التشابُه بين ظاهرتَيْن لا يكاد يعتقد أحدٌ فى وجودِ تشابُهٍ بينهما.
الحَجْر الصحّى والحَجْر اللّغوى
أَصبح مُصطلح «الحَجْر الصحّى» عالَمى الاستعمال منذ تفشّى فيروس كوفيد 19 فى جميع البلدان ابتداء من مطلع العام 2020. فللوقاية والحدّ من جائحة كورونا، لجأت المُجتمعات إلى تبنّى سياسة الحَجْر الصحّى الذى يتمثّل فى نقصان الاختلاط بين الناس واستعمالهم البروتوكولات الصحيّة كلباس الكمّامات والابتعاد الاجتماعى.
أمّا مُصطلح «الحَجْر اللّغوى» فهو يشبه نظيره الصحّى، إذ يدعو فى هذا المقال إلى الوقاية من التدريس بغير اللّغة الوطنيّة فى التعليم فى جميع مراحل التعليم الابتدائيّة والإعداديّة والثانويّة؛ أى أنّ مُصطلح الحَجْر اللّغوى يعنى هنا عدم المَزج اللّغوى فى تدريس الموادّ فى المراحل الثلاث المذكورة. وبعبارة أخرى، يجب أن يتمّ التدريس باللّغة الأمّ أو باللّغة الوطنيّة فقط. هذا ما نجده بارزا فى المُجتمعات المتقدّمة بخاصّة.
احترام المُجتمعات للُغاتها
تكاد لا تُحصى أمثلةُ المُجتمعات المتقدّمة التى تُستعمل فيها لغات الأمّ وحدها فى كلّ شىء. فالوطنيّة اللّغويّة فى مُقاطعة كيباك الناطقة بالفرنسيّة فى كندا، جعلت استعمال اللّغة الفرنسيّة فى الكتابة أمرا إجباريّا فى كلّ شئون الحياة فى المُقاطعة. وتُعتبر سويسرا مُجتمعا مثاليّا لاحترامها للغاتها الأربع: الألمانيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والرومانيّة.
غياب الوطنيّة اللّغويّة
تُشير الكثير من الأحداث التونسيّة إلى ضُعف الاهتمام بالأمور الوطنيّة وتهميشها فى مجلّات الرأى العامّ. مثلا، فتفضيل استعمال الفرنسيّة بدل العربيّة فى المُجتمع التونسى فى الإعلان عن نتائج امتحانات البكالوريا وغيرها، يُعتبر نفورا من رحاب الوطنيّة اللّغويّة. هناك عوامل عدة وراء ذلك السلوك:
1ــ يفسّر ابن خلدون ظاهرة النفور من اللّغة الوطنيّة / العربيّة فى تونس بملاحظته الشهيرة: «المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالِب».
2ــ الازدواجيّة اللّغويّة الأمّارة: أَبرز مؤلِّف كِتاب العقل العربى آثار التعليم الثنائى اللّغة (الذى يَستعمل لغةً أجنبيّة فى التدريس) فى المُجتمعات العربيّة على اللّغة العربيّة، كما هو الحال فى التعليم الصادقى التونسى والتعليم العامّ بعد الاستقلال. فوَجَد أنّ هذَيْن النوعَيْن من التعليم، وغيرهما، يؤدّيان عموما إلى الأعراض التالية لدى خرّيجيهما:
أ ـ الانتماء إلى ثقافتَيْن من دون القدرة على تعريف الذّات بالانتماء الكامل لأىٍّ منهما.
ب ـ التذبذب المزدوج يتمثّل فى رغبتهم كسب علاقة حميمة كاملة مع الغرب ومع مُجتمعهم فى الوقت نفسه، من دون النجاح فى أىٍّ منهما.
ت ـ يتّصف خرّيجو ذلك التعليم بشخصيّة مُنفصِمة ناتجة عن مُعايَشة عاملَين قويَّين مُتعاكسَين: الارتباط بالثقافة العربيّة والانجذاب إلى الثقافة الغربيّة.
ث ـ عداءٌ سافر للاستعمار الفرنسى يُقابله ترحيبٌ كبير بلغته.
تُفيد ملاحظاتُ كِتاب «العقل العربى» بأنّ التعليم التونسى المزدوج اللّغة، لا يُساعد على إرساء علاقة حميمة مع اللّغة الوطنيّة / العربيّة لسببٍ رئيس، ألا وهو فقدان العلاقة الطبيعيّة فى التدريس باللّغة العربيّة. تعنى العلاقة الطبيعيّة بين الناس ولغاتهم استعمالهم للغاتهم شفويّا فقط وكتابيّا فى كلّ شىء. فالعلاقة الطبيعيّة مع اللّغة تؤدّى بقوّة إلى وطنيّة لغويّة صلبة فى المُجتمع.
الحَجْر اللّغوى والعلاقة مع العربيّة
نذكر مثالَين للعلاقة السليمة التى يُنشئها الحَجْر اللّغوى مع اللّغة العربيّة:
1ــ إنّ خريجى التعليم التونسى فى ما يسمّى «شعبة أ» فى مطلع الاستقلال فى المُجتمع التونسى مثالٌ للآثار الإيجابيّة للحَجْر اللّغوى على العلاقة مع اللّغة العربيّة / الوطنيّة. لقد دَرَسَ هؤلاء الخرّيجون كلَّ المواد باللّغة العربيّة فقط، من المرحلة الابتدائيّة حتّى السنة الأخيرة من المرحلة الثانويّة. تُشير الملاحظات الميدانيّة إلى أنّهم أكثر خرّيجى المدارس التونسيّة بعد الاستقلال تعاطُفا مع استعمال اللّغة العربيّة وحماسةً نحوها.
2ــ يمثّل التعليم الزيتونى الإعدادى والثانوى النَّوع الثانى من نظام التعليم التونسى فى عهد الاستعمار ومطلع الاستقلال الذى يتبنّى سياسة الحَجْر اللّغوى؛ فاللّغة العربيّة هى سيّدة الموقف عند المتعلّمين الزيتونيّين الذين يدرسون جميع المواد باللّغة العربيّة.
فقدان الحَجْر اللّغوى وآثاره السلبيّة على العربيّة
أمّا خريجو باقى التعليم التونسى ــ وهُم أغلبيّة المُتعلّمين التونسيّين ــ فهُم فاقدون للحَجْر اللّغوى، أى أنّهم درسوا باللّغة الفرنسيّة معظم الموادّ. نذكر صنفين من تعليم هؤلاء:
1ــ المدرسة الصادقيّة الثنائيّة اللّغة (الفرنسيّة والعربيّة) قبل الاستقلال؛ حيث هَيمنت اللّغةُ الفرنسيّة كوسيلةٍ لتدريس التلاميذ التونسيّين الموادّ المُختلفة، بما فيها تدريسهم أحيانا حتّى النحو العربى باللّغة الفرنسيّة، بخاصّة من طرف بعض المُدرّسين الفرنسيّين.
2ــ أمّا النظام التربوى التونسى منذ الاستقلال، فقد كرَّس ويكرِّس تواصُلَ فقدان الحَجْر اللّغوى. وهكذا، فالأجيال التونسيّة المتعلّمة منذ الاستقلال هى أجيال لم تطبّق الحَجْر اللّغوى، ومن ثمّ يستمرّ مَرَضُ عدوى استعمال اللّغات الأجنبيّة بين معظم فئات المُجتمع التونسى.
الحداثة والاستعمار وفقدان الحَجْر اللّغوى
يأتى تأثيرُ عاملَى الحداثة والاستعمار على فقدان العلاقة السليمة مع اللّغة العربيّة فى المُجتمع التونسى. وعدوى تفشّى اللّغة الفرنسيّة، عموديّا وأفقيّا، فى المُجتمع التونسى ظاهرة بلا حدود نقتصر على ذكر عيّنة محدودة للغاية منها، مثل استمرار وزارة التربية فى عدم استعمال اللّغة الوطنيّة / العربيّة فى التصريح بنتائج الشهادة الرسميّة. وكذلك هَيمنة كتابة اللّافتات باللّغة الفرنسيّة فى الشوارع التونسيّة واستعمال الأغلبيّة الساحقة من التونسيّات والتونسيّين للّغة الفرنسيّة فى كتابة صكوكهم المصرفيّة وغياب الاحتجاجات على اللّافتات المكتوبة بالفرنسيّة فقط فى أماكن لا تحصى. وهذه كلّها شهادات ميدانيّة على ضُعف الوطنيّة اللّغويّة أو فقدانها بالكامل فى المُجتمع التونسى، وظواهر لغويّة مرتبطة بغياب مُمارَسة الحَجْر اللّغوى.
من اللّافت أنّ الأغلبيّة الساحقة من التونسيّات والتونسيّين قبل الثورة وبعدها لا ينظرون إلّا بإيجاب إلى نظام التعليم الفاقد للحَجْر اللّغوى كما عرفته التجربة التونسيّة قبل الاستقلال وبعده. وهى رؤية مَبنيَّة على جهلٍ بأبجديّة تعلُّم لغة الغَير بطريقةٍ سليمة تُحافِظ على أولويّة استعمال اللّغة الوطنيّة قبل أى لغة أخرى، وهو أمر لا يتحقّق بطريقة طبيعيّة من دون الحَجْر اللّغوى.
النص الأصلى:
التعليقات