فرنسيس وفرنسيس - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 9:40 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فرنسيس وفرنسيس

نشر فى : السبت 9 مارس 2019 - 12:40 ص | آخر تحديث : السبت 9 مارس 2019 - 12:40 ص

فى عام 1182 نادى بابا روما المعظم بعقد مجمع كنسى كان موضوعه استعادة الأراضى المقدسة من أيدى المسلمين المتوحشين ووضع المجمع خطة عريضة مفادها تكوين جيش جرار لتحرير الأراضى المقدسة وأنه لا بد وأن تجتاز هذه الحملة الصليبية مصر للوصول إلى بيت المقدس، وأخذ أمراء كل مقاطعة فى تحميس شعبها ليتطوع بهدف تحرير البلد التى ولد فيها السيد المسيح ومن المعروف أن جميع المصريين (الأقباط) كانوا من المسيحيين حتى دخل الإسلام إلى مصر وكل الشرق الأوسط فى القرن السابع. وكان عمر بن الخطاب خليفة للمسلمين عندما دخلت جيوشه إلى فلسطين واستمر الوضع فى فلسطين بسكانه المسلمين والمسيحيين واليهود حتى عام 1219 حيث بدأت جيوش أوروبا والتى أطلق عليها جيوش الصليبيين التحرك لتحرير أورشليم، كان السلطان العادل يحكم فلسطين وكان ابنه الكامل يحكم مصر، وفى وسط حماس الجماهير الأوروبية المتجهة إلى الشرق كان هناك راهب زاهد يدعى فرنسيس الأسيسى مؤسس رهبانية الأخوة الأصاغر والأسيسى نسبة إلى بلده أسيس بفرنسا، هذا الراهب الشاب الزاهد أخذ على عاتقه أن يلتحق بالحملة لأنه آمن أن الله دعاه لأن يبشر المسلمين بالمخلص يسوع المسيح، وأخذ موعدا من البابا واستأذنه فى أن يلتحق بالجيش ولما رأى البابا إصراره وافق على انضمامه على مسئوليته الشخصية. عندما وصلت جيوش الصليبيين إلى مصر ترك معسكره وسار على قدميه ومعه صديق له راهب أيضا حتى وصل إلى دمياط واقترب من معسكر الجيش طالبا مقابلة الملك الكامل ولما أخبروا الملك وقالوا له إنه راهب لا يملك شيئا من الدنيا يريد مقابلتك آذن الملك أن يحضروه إليه خاصة أنه قال إنه يحمل شهادة إيمان ومحبة وسلام، كان فرنسيس يظن أنه سيتقابل مع شخص بدوى متوحش بحسب ما قالوا له فى أوروبا ووضع فى ذهنه أنه سيقوم بتبشيره بسلام ومحبة المسيح، لكنه فوجئ بملك مثقف يعرف الكثير عن أوروبا ويتقن الشعر وأحس الاثنان أن روحيهما تلاقتا فلم يكن الحديث عن الله الواحد غريبا على إحداهما واكتشف فرنسيس مدى تحضر الملك فى طريقة جلوسه وكلامه ورقة حديثه، هنا أدرك الراهب فرنسيس أهمية وجمال الحوار وبدأ بينهما حوار ثقافى تاريخى لاهوتى فقهى ووجدا أن هناك أرضية مشتركة يمكنهما الوقوف معا عليها، ولاحظ فرنسيس أن مسيحيى (أقباط) مصر قد حرمهم الصليبيون من زيارة القدس لأنهم وقفوا بجوار المسلمين دفاعا عن وطنهم بل وجد جنودا مسيحيين فى الجيش المصرى وأن المصريين أطلقوا على هذه الحروب حروب الفرنجة رافضين أن ينسبوها للصليب رمز الحب والعطاء ولقد تعجب الراهب فرنسيس عندما سمح له الملك الكامل أن ينزل إلى مصر بدعوته ورسالته ولا يمنعه أحد وهكذا بدأت رسالة الفرنسيسكان والتى أطلق عليها فرنسيس «الأخوة الأصاغر» نسبة إلى حديث المسيح مع تلاميذه قائلا:
«كنت جوعانا فأطعمتمونى عطشانا فسقيتمونى عريانا فكسوتمونى مريضا فزرتمونى مسجونا فأتيتم إلى فقال له تلاميذه متى رأيناك يا معلم هكذا وفعلنا ذلك معك قال الحق أقول لكم بما فعلتم بأحد أخوتى هؤلاء الأصاغر فبى فعلتم» وما زالت هذه الرهبنة تخدم فى أرض مصر بكنائسها ومدارسها وأنشطتها المختلفة حتى اليوم وقد عقدت رهبانية الأخوة الأصاغر لقاء ضخما مع قيادات الأزهر تحت عنوان: «حوار سلام وطمأنينة» يوم السبت 3 مارس. لم يكن الراهب فرنسيس رئيسا لطائفة ولا كاردينالا ولا بابا لكنه كان رجلا صاحب رؤيا للسلام والإخاء والحب. بعد مرور ثمانية قرون على زيارة فرنسيس الأسيسى لمصر ظهر راهب آخر ارتقى فى سلم الكنيسة الكاثوليكية فى الأرجنتين حتى وصل إلى أعلى رتبة بالكنيسة «بابا الفاتيكان» ــ ولأنه كان متأثرا جدا بما فعله فرنسيس القرن الثالث عشر ــ كان من تقاليد الفاتيكان أن كل من يُنتخب بابا له الحق أن يختار اسما جديدا له من القديسين فطلب البابا المُنتخب أن يُدعى فرنسيس وبدأ فى تبنى الحوار مع جميع الأديان خاصة الإسلام على خطى فرنسيس الاسيسى وكأنه يستكمل رسالته وأيضا على خطى فرنسيس 1219 قام البابا فرنسيس بزيارة مصر إبريل 2017.
***
وتحدث فى مؤتمر السلام العالمى. ثم كانت زيارته لأبوظبى 3 – 5 فبراير 2018 حيث وقع مع شيخ الأزهر أحمد الطيب على «وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمى والعيش المشترك» والحقيقة أن هذا اللقاء وإصدار الوثيقة قد تأخر أكثر من ربع قرن من الزمان فمنذ خمسة وعشرين عاما كانت كتابات برنارد لويس وصموئيل هنتجتون عن صدام الحضارات انتشرت فى كل أنحاء العالم ولقد تصدى لمثل هذه الدعاوى منظمات علمانية وعلمانيون مثقفون يقبلون الآخر المختلف وهذا عكس ما فعلته المؤسسات الدينية التى تتحرك كآخر منظمات الدول حيث إن لها حسابات خاصة بها من أهمها موقف الدولة من ناحية وموقف رجال الدين بكل توجهاتهم المختلفة من الناحية الأخرى وأخيرا موقف الجماهير والذين غالبا يكون معظهم رافضين لأى خطوة إيجابية نحو الآخر المختلف بناء على تعليم المؤسسة لعشرات بل ربما لمئات السنين ذلك التعليم الرافض للآخر المختلف بكل تنوعاته، لذلك تقوم رئاسة المؤسسات الدينية بمحاولات لتوصيل فكر قبول الآخر على دفعات متباعدة حتى لا تقابل بالرفض لكن – ما علينا ــ ما يهمنا هنا هو أننا نرى فى هذه الوثيقة طاقة نور غير مسبوقة لحركة لو أخذت بجدية يمكن أن تغير التاريخ فهى وثيقة رصينة عميقة أُعدت باهتمام شديد وواضح أن كاتبيها لديهم ثقافة تاريخية عميقة وأبعادا سياسية واضحة ورؤيا مستنيرة للمستقبل، ولقد تصدت هذه الوثيقة لتجار الحروب الذين يتعايشون على مناطق النزاع، والحقيقة عندما قرأت الوثيقة بعناية أحسست ولأول مرة أنها مختلفة عن جميع الوثائق السابقة لها فهى تصف واقع الحال بوضوح شديد وفهم واضح أو تعطى أملا للأجيال القادمة بحياة يسودها السلام حيث لم تتناول الوثيقة أبناء إبراهيم (اليهود – المسيحيين ــ المسلمين) فقط لكن ولأول مرة تمتد إلى جميع أتباع الأديان والمعتقدات الأخرى مثل البوذية والكنفشوسيه والهندوسية والشنتو....إلخ، وهذه الصياغة تدين معظم شعوب العالم من الأول حتى الثالث وعندما تصدر عن أتباع ما يسمى ‏بـ«الديانات السماوية» فهذا يدل ولأول مرة على إحساس بالتاريخ والتطور الحادث فى المجتمعات، لقد كانت نظرة أتباع الأديان السماوية متعالية إذ تصنف أتباع الأديان الوضعية بالجهل والغباء والشرور وأن نهايتهم الجحيم وبئس المصير، وقبل هذه الوثيقة كان أتباع الأديان السماوية لهم نفس النظرة لبعضهم البعض لكن أن يجتمعوا ويتفقوا على مبادئ للحب والحوار وقبول بعضهم البعض فهذه خطوة على الطريق وإن كنت أخشى من ازدواج الخطاب بين ما يوجه إلى الخارج وما يوجه إلى الداخل وهو ما لا بد أن يكون محل اهتمام قيادات الأديان السماوية طبقا لاعتقادهم فى الفترة القادمة. من أروع ما فى هذه الوثيقة أنها توجهت لا إلى قادة الأديان فقط لكن إلى قادة العالم وصانعى السياسات العالمية بل والمفكرين والفنانين.... إلخ.
***
لى بعض التحفظات على الوثيقة رغم روعتها، لقد بدأت الوثيقة بأن على المؤمن (وبالطبع هنا يتوجه إلى أتباع الديانات السماوية الذين شاركوا فى صياغة الوثيقة) أن يرى الآخر أخا له ويحبه وانطلاقا من الإيمان بالله الذى خلق الناس جميعا وخلق الكون والخلائق وساوى بينهم برحمته فإن المؤمن مدعو للتعبير عن هذه الأخوة الإنسانية بالاعتناء بالخليقة وبالكون كله وتقديم العون لكل إنسان.... إلخ. وتأتى الوثيقة فى النهاية لتدين كل الممارسات التى تهدد الحياة كالإبادة الجماعية والعمليات الإرهابية والتهجير القسرى والمتاجرة بالأعضاء البشرية، وهذا عظيم لكنه أضاف مساويا لما سبق الإجهاض والموت (اللارحيم) سخرية من الموت الرحيم والسياسات التى تشجعها وما أضيف هنا هو قرارات شخصية بسبب ظروف قاسية جدا لأفراد يتألمون ويرون أن الموت أرحم من عذاب الجسد وآخرون يرون الإجهاض أرحم من الفضائح وهكذا....إلخ، ما تعلمناه عن الاديان أنها لا بد وأن تترك المجال لقرارات فردية يتحمل وزرها من يتخذونها وهم يلقون بأنفسهم على رحمة الله الرحمن وهكذا أرى أن هذه الحالات لا تخضع للأحكام العامة أو الوثائق العالمية.
أيضا تقول الوثيقة، إن هدف الأديان الأول هو الإيمان بالله وعبادته، وحث جميع البشر على الإيمان بأن هذا الكون يعتمد على إله يحكمه هو الخالق الذى أوجدنا بحكمة إلهية.... إلخ.
هل هذه الفقرة تقبل رئيس كوريا الجنوبية وترفض رئيس كوريا الشمالية وتكفره وتحض على دعوته للإيمان بالله؟ وهل تستبعد الصين والهند واليابان... إلخ وعددهم أكثر من نصف العالم؟ هذا فضلا عن تقدمهم العلمى والحضارى الملحوظ عن دولتى الموقعين على الوثيقة.

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات