الموت والحياة فى مسألة حروب المياه - أيمن النحراوى - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 6:30 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الموت والحياة فى مسألة حروب المياه

نشر فى : الجمعة 13 مارس 2020 - 11:45 ص | آخر تحديث : الجمعة 13 مارس 2020 - 11:45 ص

مما لاشك فيه أن مياه النيل بالنسبة لمصر تمثل مسألة تعلو فى الأهمية فوق كل المسائل؛ حيث تتضمن فى ثناياها وأبعادها وآثارها فاصلا حقيقيا بين الحياة والموت أكثر من أى دولة أخرى من دول حوض النيل، كون مصر تعتمد ومنذ فجر التاريخ على ذلك النهر العظيم فى إمدادها بالمياه، وكون الإنسان المصرى قد فهم ذلك واستوعبه لدرجة أنه قدس النهر واعتبره رافدا سماويا للحياة والخير لمصر.
وبرغم أن مصر كدولة كبرى تدرك أن ذلك النهر هو أيضا له أهميته بالنسبة للعديد من دول حوض النيل، وتتفهم مسعى أى دولة للاستفادة منه للتنمية، إلا أنها فى ذات الوقت لا يمكن أن تقبل أن يكون ذلك غطاء للاستحواذ على مياه النهر واستغلاله بأنانية مطلقة دون الأخذ فى الاعتبار مصالح الدول الأخرى وأمنها المائى وحياة شعبها، ولا أن يستخدم ذلك يوما كأداة للابتزاز السياسى والاقتصادى، والتغول على حقوق الآخرين وتهديد وجودهم وحياتهم، وهو الأمر الذى أيدته ونظمته القوانين والمواثيق والمعاهدات الدولية بشأن الأنهار العابرة للدول.
ويمكن لأى راصد لتطور موضوع السد الأثيوبى أن يتبين أنه وطوال السنوات السابقة أن الحكومة المصرية قد سعت خلال محادثاتها مع الجانب الإثيوبى نحو الوصول لاتفاق متوازن وعادل بشأن مياه النهر والسد يحقق مصالح الدول الثلاث المعنية مصر والسودان وإثيوبيا بما يضمن الأمن المائى لمصر ــ وهى دولة المصب ــ والتنمية لإثيوبيا ــ وهى دولة المنبع، وفى إطار القوانين والمواثيق والمعاهدات الدولية، لكن هذا القدر من الصبر والحكمة من جانب مصر لم يقابله سوى قدر مماثل من التعنت والمراوغة من جانب إثيوبيا، أما عن الحكومة السودانية فقد اتخذت موقفا زئبقيا لم تنصر فيه حق مصر وخذلت الأخوة وقطعت الأواصر.
***
فى هذا الشأن تنص المادة الخامسة من اتفاقية إعلان المبادئ الذى وقع عليه رؤساء مصر والسودان وإثيوبيا عام 2015 على ضرورة الاتفاق على قواعد ملء السد وتشغيله قبل البدء بعملية الملء، كما تنص المادة العاشرة من اتفاق المبادئ على اللجوء إلى طرف دولى ثالث يساعد فى التوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن، ووافقت الدول الثلاث على الولايات المتحدة والبنك الدولى كمراقبين ثم بالحكومة الأمريكية كوسيط محايد، وصدر بيان عن وزارة الخزانة باعتبارها الممثل للحكومة الأمريكية فى المفاوضات يتضمن «ضرورة تطبيق معايير السلامة الدولية قبل بدء ملء السد»، «وأهمية التوصل إلى اتفاق يحمى دولتى المصب مصر والسودان من أية أخطار جسيمة تهدد أمنها المائى».
ودعا البيان إثيوبيا والسودان للتوقيع على مسودة الاتفاق الذى جرت صياغته بمساعدة البنك الدولى لصياغة القواعد واللوائح الخاصة بتعبئة السد وتشغيله، أسوة بالتوقيع المصرى عليه بالأحرف الأولى، لكن إثيوبيا رفضت التوقيع، بل وتجاوزت كثيرا عندما اتهمت الولايات المتحدة بالانحياز، ومؤخرا تغيب الوفد الإثيوبى عن حضور الاجتماع النهائى فى واشنطن للتوقيع على الاتفاق النهائى الذى صاغته وزارة الخزانة الأمريكية فى تحد واضح للحكومة الأمريكية والأطراف المتفاوضة.
وبرغم التوصل المبدأى فى واشنطن لاتفاق يراعى مصالح دول المصب ويضع القواعد الحاكمة لعمليتى ملء السد وتشغيله بما لا يحدث أضرارًا جسيمة لها، إلا أن التطور الخطير فى الأمر قد تمثل مؤخرا فى إعلان وزير الخارجية الإثيوبى جيتداشو اندراجو أن بلاده ستبدأ فى التعبئة الأولية لخزان السد فى يوليو القادم، وأضاف بقوله «الأرض أرضنا والمياه مياهنا والمال الذى يبنى به السد مالنا ولا توجد قوة يمكنها منعنا من بنائه»، وهو بقوله يعبر عن انتهاك صارخ للقوانين والمعاهدات الدولية بشأن الأنهار، ويضرب عرض الحائط بحقوق الدول ومصالحها، ومخالفة اتفاق إعلان المبادئ ٢٠١٥ والذى نص على ضرورة الاتفاق على قواعد ملء وتشغيل السد قبل البدء فى الملء وهو الاتفاق الذى وقعته إثيوبيا ويفرض عليها الالتزام بموجبه بإجراءات محددة لتأكيد عدم الإضرار بدول المصب.
وهكذا وبعد أن كشفت السياسة الإثيوبية عن وجه قبيح ونية غير سوية فى ممارسة الهيمنة على نهر النيل وإصرارها على ملء السد بشكل منفرد، والمناورة السياسية بجعل مسار المفاوضات رهينة لاعتبارات سياسية داخلية، جاء قرار جامعة الدول العربية معبرا عن خيبة الأمل والانزعاج الشديد إزاء المواقف الإثيوبية المتعنتة والمراوغة طوال مسار المفاوضات وتبنت الجامعة قرارا يدعو إثيوبيا للالتزام بالقانون والمعاهدات الدولية، وعدم الإقدام على أى إجراءات أحادية من شأنها الإضرار بحقوق مصر ومصالحها المائية، إلا أن إثيوبيا ردت على ذلك ببيان حاد يتضمن نقدا للجامعة ودولها ومقرراتها بعنجهية فى الجمل والألفاظ والتعبيرات، وعدم اللياقة وافتقاد الدبلوماسية.
***
وهكذا يتضح أن المستقبل قد ينطوى على عدة سيناريوهات فى شأن موضوع السد الإثيوبى، السيناريو الأول والممكن حدوثه خلال الشهور القادمة هو تعقل الحكومة الإثيوبية واستجابتها للمطالب المصرية المحقة والعادلة فى إطار مسودة الاتفاق النهائى التى تم التوصل إليه فى واشنطن برعاية الولايات المتحدة وإشراف البنك الدولى، ومن ثم التوقيع على الاتفاق قبل المباشرة فى عملية ملء سد النهضة مع بداية موسم الأمطار فى يوليو القادم، وعندئذ تكون المشكلة قد تم حلها وانفرجت الأزمة ويكون ذلك مبدأ تعاون حقيقى ومخلص بين جميع الأطراف.
والسيناريو الثانى قد يكون تأجيل الحكومة الإثيوبية التوقيع على الاتفاق النهائى والانتظار لما بعد إجراء الانتخابات الإثيوبية مع عدم البدء فى ملء السد إلا بعد التوقيع على الاتفاق النهائى، وفى هذه الحالة سيعد ذلك تأجيل للأزمة وليس حلا لها، وهو سيناريو من المرجح أن توافق عليه مصر وتؤيده الولايات المتحدة، لكنه غير محتمل الحدوث للجانب الإثيوبى الذى يتعجل ملء السد وتشغيله لأسباب سياسية واقتصادية متعلقة به.
والسيناريو الثالث هو قيام الحكومة الإثيوبية بتصرف أحادى خطير يتمثل بالبدء فى ملء وتشغيل السد قبل التوقيع على الاتفاق النهائى، متجاهلة جميع الاعتبارات وضاربة عرض الحائط بالمعاهدات والقوانين الدولية، وإعلان المبادئ الذى وقعته والتزمت به عام 2015، وفى هذه الحالة تكون الحكومة الإثيوبية قد أخذت بالأزمة نحو التصعيد وانتهاج سياسة حافة الهاوية والدفع نحو المواجهة المباشرة مع مصر مستندة إلى تحريض أو تشجيع من دول أو أطراف معادية لمصر.
إن حكمة السياسة الخارجية المصرية وصبرها الطويل سيستلزم عندئذ التحول نحو التصعيد الدبلوماسى على المستوى الثنائى والإقليمى والقارى والدولى، وعلى مستوى المنظمات والهيئات الدولية ممثلة فى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولى، واللجوء إلى جميع الإجراءات والتدابير السياسية والدبلوماسية للوقوف فى وجه التغول الإثيوبى للهيمنة على مياه نهر النيل والافتئات على حقوق دول حوض النيل وفى مقدمتها مصر المتأثر الأكبر بالسياسات الاثيوبية العدوانية تجاه الحقوق المصرية الثابتة والتاريخية فى مياه النيل.
إن البدائل فى مسألة السد الإثيوبى متعددة ومتنوعة، ولا يرغب أحد أن تصل الأمور إلى البديل العسكرى وهو بديل محتمل تجيزه الأعراف والقوانين الدولية، ومصر بعون الله قادرة عليه، عندما تصبح الحرب هى الملاذ الأخير للدفاع عن الحقوق المشروعة بقتال من ينتهكها، ولا يرغب أحد أيضا أن تكون حرب المياه الأولى هى حرب يخوضها شعبان ارتبطا معا منذ قديم الأزل بروابط ثقافية ودينية وتاريخية، وما يجمعهما أكثر مما يفرقهما وهو ما نأمل أن يعيه العاقلون والحكماء فى إثيوبيا، ونهر النيل الذى تحمل مياهه الخير منذ بدء الخليقة هو قادر بعون الله أن تحمل مياهه تباشير السلام.

أيمن النحراوى  خبير اقتصاد النقل والتجارة الدولية واللوجيستيات
التعليقات