غرباء فى بيتي - داليا شمس - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 4:42 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غرباء فى بيتي

نشر فى : السبت 13 نوفمبر 2021 - 8:10 م | آخر تحديث : السبت 13 نوفمبر 2021 - 8:10 م

السيدة فيوليت لا تشبه اسمها، فهو يعنى بنفسج، الزهرة التى تبهج وهى حزينة كما قال عنها صالح عبدالحى فى أغنيته الشهيرة، بل حياتها محايدة باردة معظم الوقت، تسير على وتيرة واحدة، حتى قبل أن تحال إلى المعاش من وظيفتها كمدرسة أشغال يدوية. لا جرعات فائقة من الحزن أو البهجة.
استأجرت قبل سنوات شقة بحى الدقى الذى كان زمان هادئا. أحبتها لأنها تطل على شجرة كبيرة لا تعرف نوعها ولا فصيلتها، لكنها تضفى حيوية على البيت. شجرة لا وجود لوباء قادر على النيل منها، فهى مازالت تنتج الأوراق الخضراء وتسكنها الوطاويط. اعتادت أن ترى هذه الأخيرة وهى نائمة نهارا فى وضع مقلوب، رأسها لأسفل وأرجلها متدلية من الأغصان. ورغم ذلك الإعجاب بالشجرة منذ البداية، إلا أنها لم تكن تتخيل حجم حضورها فى حياتها بمرور الوقت، فقد فرضت عليها نمطا من التعايش مع كائنات أخرى، ستتطفل عليها بشكل دائم.
تغزو البيت حين تريد، وترحل حين تريد. تدخل بلا دعوة، وهى لا تستطيع كبح تطفلها. ليلا تطير الوطاويط فى الظلام وقد يدخل واحد أو اثنان إلى المنزل، ربما فى طلعات استكشافية أو جولات تفتيشية. وفى ساعة العصارى، تكون فيوليت على موعد مع فأر يبدو من مظهره أنه فى منتصف العمر، يخرج من نقطة محددة ليصل إلى أخرى، يوميا يقطع المشوار نفسه بمنتهى الدأب ودقة التوقيت. أما الضيف الثالث والذى لم يعد ضيفا فهو بُرص أبيض صغير، وزغة تزحف على سلك الشباك المعدنى، وأطرافها أو أصابع أرجلها ممسكة بسطح النافذة كما لو كانت مثبتة بلاصق. كان البُرص وحيدا مثلها، لكن صار له الآن عائلة كبيرة. فى البداية حاولت محاربته بكل الطرق، لكن بعدها اعتادت وجوده وتركته يتغذى على الحشرات ويخلصها من الناموس.
***
تأقلمت مع وجود كل هؤلاء الغرباء وصاروا جزءا من حياتها الفارغة. يرمقونها بنظرات فضولية ويراقبون أدق تفاصيل خصوصيتها، فتبادلهم النظرات والمراقبة هى الأخرى. وأخذت تقنع نفسها بأن ثقافة التطفل منتشرة عموما، وأنه مع الجائحة ازدادت رغبة البعض فى التلصص على الآخرين لملء الفراغ، على الأقل هذه الكائنات البريئة تكتفى بالمراقبة دون حشر أنفها فيما لا يعنيها، هذا بالإضافة إلى أنهم لا يملكون القدرة على الحسد والتربص مثل بنى آدم. أصابتها الدهشة بالحَوَل أول مرة اكتشفت أن الفأر ينظر إليها بعينيه الفضوليتين، وهى تخلع ملابسها، ثم لم يعد ظهوره يثير الريبة أو حتى الذعر.
الكائنات المختلفة من حولها تهمس أو تزمجر، لكن ما تقوله غير مفهوم. ينطفئ الليل، أما السيجارة فلا تنطفئ فى يدها. تنتظر من منهم سيمر عليها الآن فيؤنس وحدتها، وقد تعاملت معهم من باب «كل اللى يجيبه ربنا كويس». تدندن مع أغنيات فيلم «بياع الخواتم» لفيروز، وهى تشاهده للمرة المليون. يفزع البرص ويهرب، ثم يعاود الظهور مع فقرة الغسيل، فلازالت تغسل الملاءات والفوط وهى جالسة على مقعد قصير القوائم وأمامها طبق كبير معدنى. تقوم بغليهم لتضمن درجة النظافة والتبييض، ولا تقنع بأداء الغسالة الأوتوماتيك. تتصاعد الأبخرة وتتكوم الأقمشة المبللة حولها. تدندن أغنية «ليه يا بنفسج» دون موسيقى على طريقة أميمة الخليل التى اكتشفتها ذات ليلة بمحض المصادفة على اليوتيوب، وهى منهمكة فى دعك الملاءات وعصرها.
***
كانت تخيط أفضل المعاطف والسترات الصوفية، دروعا أنيقة ضد البرد، لكن المفارقة أنها لم تلبسها قط، فقد ظلت ترتدى بلوزة بأكمام قصيرة وألوان وقورة وجونلة سوداء تصل إلى الركبة، طيلة فترة عملها وبعد المعاش، لا علاقة لها بالموضات والتغيرات المجتمعية، هكذا هى صورة فيوليت التى تتعرف عليها بسهولة كلما رأتها فى المرآة، بشعرها القصير الذى تصبغه بنبات الحنة فتتخذ بعض خصلاته البيضاء لونا قرمزيا فاقعا. وحين تزداد شدة الصقيع تضع كنزة واسعة بسيطة، تخلعها فور دخولها إلى مكان مغلق، فلا تقيد حركتها.
هذا الصباح سطعت الشمس متسللة إلى غرفة نومها فأضاءت سريرها والمنضدة. فجأة اقتحمت المكان يمامة نحيفة ذات لون بنى شاحب، يكسو أجزاءها السفلية ظل من اللون الرمادى، اختبأت وراء ساتر صغير وحين حاولت فيوليت مساعدتها على الخروج تضاعفت ربكتها وراحت تتخبط بين الجدران. كعادتها فى البداية عند وصول زائر غير مرغوب فيه إلى المنزل سعت للتخلص منها، ثم سرعان ما قررت أن تتركها على سجيتها. مكثت يوما أو بعض يوم مختبئة خلف الخزانة دون طعام أو شراب، ورحلت وقتما شاءت دون أن تفهم سرها. هذا المنزل دون مرور هؤلاء الغرباء ووجود الشجرة كان سيصبح موحشا، هى تعلم ذلك. لذا لا يمكن أن تمشى بجانب الشجرة دون أن تلقى عليها التحية.

التعليقات